الطريق إلى الجامعة والحلم المستحيل

نساء تمشي في حي طريق الباب المدمر _ حسام كويفاتية

نساء تمشي في حي طريق الباب المدمر _ حسام كويفاتية

بعدما انفصلت عن زوجي وأخذَ مني ولدَي، عشتُ مع أهلي وابنتي الصغرى. وعدتُ إلى الدراسة فحصلت على شهادة البكالوريا بمعدل جيد، وقررت دخول الجامعة في قسم الجغرافيا في جامعة دمشق.

انتظمت بدوامي في السنة الأولى، فكان كل شيء جديداً علَي. ثمَّ مرت عدة أشهر، حتى اقترب موعد الإمتحانات. عندها، درستُ جيداً وقمتُ بتقديم ثلاث مواد متتالية.  وفي صباح أحد الأيام، استيقظت باكراً لأجهزّ نفسي من أجل الذهاب من بلدتي يبرود إلى دمشق، لتقديم المادة الرابعة. والمسافة بينهما 80 كلم.

 

وصلتُ إلى الكراج (المحطة) الذي اعتدت الذهاب منه. وأثناء صعودي الميكرو باص، سمعتُ السائق يقول للركّاب: “من المحتمل أن يتأخر انطلاقنا بين النصف ساعة والساعة”. وذلك لأنَّ أحد السائقين اتصل به، وأخبره أنَّ الطريق مقطوع بشكل مؤقّت بسبب قصف الطيران. لم يحدّد في حينها مكان القصف، فبدأ قلبي بالخفقان من شدة خوفي… كنتُ أعلم أنّ طيران النظام يقوم كعادته بجولة على جميع القرى والبلدات المحرّرة، ليدب الرعب في قلوب الجميع مخلّفاً وراءه الدمار والموت.
قررتُ أن أتمالك نفسي وأسلّم أمري لله، وألا أسأل عن مكان القصف، فهدفي المحدَّد اليوم هو الإمتحان.

انتظرنا حوالي النصف ساعة حتى انطلق السائق. لكنّ خوفي عاد من جديد وازداد، ففكرت أنهُ ربما تستهدف الطائرة السيارة التي تقلّني!

 

وفي طريقنا، مررنا بقرية لم أكن أعلم ما اسمها، وهي المرة الأولى التي نمر بها. وبدأت أسأل نفسي: هل مرَّ السائق من هنا، لأنّ طريق آمن أكثر من غيره؟ أم أنّ القرية بعيدة عن حواجز النظام؟

أسئلة تتراود إلى البال، وشكوك لا تُعَد ولا تُحصى…

 

بعد مرور الوقت، قال السائق: “جهّزوا بطاقاتكم الشخصية، هناك حاجر للنظام”.

وفعلاً، اضطررنا للوقوف عند الحاجز، وبدأ بتفتيش حقائبنا… لم أكن أضع في حقيبتي، سوى هويتي وبطاقتي الجامعية وقلمَين، وبعض الأشياء التي تلزمني حين أنتهي من الإمتحان وأذهب إلى منزل صديقتي.

فجأة، وبينما كان الضابط يحمل هوياتنا الشخصية، نادى باسم أحد الشبّان الموجودين معنا، وقام بإنزاله من الميكرو باص، بعد أن سأله عدة أسئلة مملّة، في مقدمتها:  “إلى أين أنت ذاهب؟”. واتهمه بأنه مطلوب للخدمة العسكرية، فقام بضربه ضرباً مبرحاً أمام أعيننا، وجرّه العناصر للإحتجاز…

ثمَّ سمح لنا الضابط بالعبور… مررنا وكأنّ شيئاً لم يحصل! فنحن مضطرون للمرور من ذاك الحاجز في طريق العودة. وبالأساس، فإنّ أي ردة فعل منا حيال ما فعلوه بالشاب، ستجعلنا ندفع الثمن غالياً!

 

وصلت إلى الجامعة، وقدّمت مادة الامتحان… ثمَّ ذهبت للنوم عند صديقتي.  وفي اليوم التالي كان علي العودة إلى بلدتي… وأثناء عودتنا مررنا بذات الحاجز، مُكملين طريقنا.  كان قد بقي حوالي الساعة كي نصل إلى يبرود… وكنا ننتظر أن تُنهي الطائرة شنَّ إحدى غاراتها على الطريق المؤدّي إلى إحدى القرى. وكان علينا أن نمر من ذلك الطريق.

 

سمعنا أصوات سيارات الإسعاف كانت تنقل المصابين من مكان وقوع إحدى الغارات على ذلك الطريق… لم يكن أمام السائق سوى أن يسرع كي نتجاوز المكان. فربما تقوم الطائرة بالقصف مجدداً! أذكره، مشهداً مؤلماً للغاية، رأيت بأُمِّ عيني كيف كانت الجثث متفحّمة والأشلاء متطايرة على جوانب الطريق… منازل متصدّعة رأيتها بالقرب منا، والدمار يملأ المكان… كل ذلك رأيته أثناء مرورنا فقط! ولم أحتمل الأمر، فبدأت دموعي تسيل على وجنتيّ… فما ذنب الناس الأبرياء؟

 

عدتُ إلى المنزل والحمد لله لم أصب بأي أذى… وما حصل ويحصل يومياً على الطرقات من قصف، لم يكن بأمر يمنعني من مواصلة دراستي، بل كان محفّزاً أكبر لي.

 

بعد مرور أيام، كالعادة جهّزت نفسي للذهاب من جديد إلى الجامعة… لكنّ أهلي في هذه المرة حاولوا منعي خوفاَ علي من القصف. أصريت وعاندتهم، لأفاجأ أنهُ لا يوجد أي سيارة في الكراج!
في بداية الأمر ظننت أنه قد تغيّر موقف السيارات، ليصبح في مكانٍ آخر… إلى أن أخبرني أحد المارّة بأنّ السائقين غير قادرين على الذهاب بسبب انقطاع الطريق، بعدما تمركز حاجز للنظام بين طريق يبرود ودمشق، مانعاً جميع المارة من الدخول إلى دمشق في أوقات محدّدة!
عندها، علمتُ فعلاً بأنّ متابعة دراستي أصبحت حلماً مستحيلاً… فالطريق الذي لم أكن أخاف من عبوره، صار مقطوعاً بالكامل… ولا يوجد أي وسيلة نقل!

تركتُ الجامعة، لكني لم أوقف تسجيلي… وبالتالي قد تمَّ فصلي بموجب تغيُّبي!

لذا يستحيل علي الآن أن أُكمل دراستي بعدما تمَّ فصلي…

شغف كرم (34 عاماً) من دمشق، مطلقة ولديها ٣ أولاد. تعمل الآن في مجال الإعلام بعد أن خضعت لدورة في الكتابة الصحفية، على أمل الرجوع إلى دمشق للإلتقاء بولديها.