الطائرة لم تقتلْ عبدالله!
- ممرضة في احدى مشافي ريف ادلب تقوم بتغير لجرح لاحد الأطفال تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"لمحت جسدَ إبني، فرفعت الحجارة عن رأسه، لأسمعهُ يقول: دخيلِك يا إمي"."
عبدالله كان في الثامنة من عمره. أرسلته والدته مع أخته الصغيرة إسراء وهي في عامها الثاني، إلى دكان أبيه، لتتفرغ هي للعمل في المنزل. أختي أم عبدالله لم تكن تعلم أن يوم الجمعة ذاك، الموافق قي 11 تشرين الثاني/نوفمبر سيغير حياة العائلة.
يروي والد عبدالله تفاصيل ما حدثَ بعدها، فيقول: “كنتُ أقفُ مع عبدالله وإسراء على الرصيف أمامَ محلي. حينَ سمعتُ عبرَ جهاز اللاسلكي أنَّ هناك طائرة في الجو، وأنها أصبحت فوق قرية كفرسجنا القريبة، حملتُ إبنتي وسحبتُ إبني من يده، متجهاً إلى إحدى زوايا المحل”.
يُضيفُ الأب: “في تلكَ الثانية، لا أدري ماذا حدثَ! شيء ما هزَّ المبنى بأكمله، وغبارٌ كثيفٌ ملأ المكان!
لم أعدْ أرى شيئاً… إسراء بين يدَي تُغطّيها الدماء، وعبدالله لم أجدهُ في المكان”.
يتابع الأب: “لقد تهدم المبنى، والمحل صارَ شبهَ منهار… خرجتُ أركضُ وأنا أنظرُ إلى طفلتي تغطيها الدماء… وأبحثُ عن طفلي وأنا أُخمِّن أنهُ ركضَ بعيداً”.
الأب كانَ قد ظنَّ أيضاً أنَّ ابنتهُ قد أُصيبَت، فسحبها جاره من حضنه وراح يركض باتجاه المغارة القريبة.
يقولُ أبو عبدالله: “كنتُ أتبع الجار دونَ وعي، وأنا أرى يدي تنزفُ دماً”.
في المغارة، اطمأنَّ الأب على طفلته. واتضحَ أنها لم تكن قد أُصيبت، إنما الدماء التي غطّتها هيَ من جرّاء إصابة يده، التي حمَت طفلته.
عادَ أبو عبدالله يصرخ بحثاً عن عبدالله! فهل فرَّ من المكان؟ قبلَ ذلك، حين وقعت إحدى الغارات، كان عبدالله قد فعلها… ظنَّ الأب أنَّ الولد قد ركضَ بعيداً.
في الوقت الذي ذهب فيه الأب إلى المغارة، كانت الأم قد وصلت إلى المحل، وتقول: “كنتُ أهمُّ بترك المنزل، متجهةً إلى المحل… فقد أرعبني صوت الطائرة القريبة من قريتنا، وذهبتُ لاصطحاب طفلَيّ! حينها وقعت الغارة! ذهبتُ إلى المحل فلم أجد إلاّ أثر الدماء، وظننتُ أنَّ الجميع قد ماتوا! لكن تحت الردم أمام المحل، لمحت جسدَ إبني، فرفعت الحجارة عن رأسه، لأسمعهُ يقول: دخيلِك يا إمي”.
تبكي الأم بعدما تروي، كيف كانَ الدم يسيل من رأس إبنها، وهي تنتشله من تحت الركام بمساعدة المسعفين الذين نقلوه إلى سيارة الإسعاف. اطمأنت على ابنها وراحت تسأل عن زوجها والطفلة الصغيرة. قالوا لها أنّهماَ قد ذهبا إلى المغارة. توجهت إلى هناك من دون تفكير ولم تكن تصدق، حتى التقت بزوجها، فأخبرتهُ عن مصير عبدالله.
ترك أبو عبدالله ابنته إسراء مع والدتها وذهب إلى المشفى يبجث عن ابنه. كان زوجي برفقته. وصلا وكانت حالة عبدالله حرجة وتستدعي نقله إلى تركيا. اتجهت سيارة الإسعاف نحو تركيا، وعندَ معبر باب الهوى لم يسمحا للأب ولزوجي بالدخول إلى الأراضي التركية، لأنهما لم يكونا يحملان بطاقتيهما الشخصية.
يروي زوجي كيف أنَّ عبدالله كان يرمقهما بعينَين خائفتين، قبلَ نقله إلى سيارة الإسعاف التركية. مضى عبدالله لوحده في رحلته إلى تركيا… ثمَّ عاد والدهُ باكياً للعلاج في سوريا، على أثر الإصابة في يده…
في اليوم التالي، علمنا أنَّ عبدالله يمكثُ في مستشفى اسكندرون. وأنه فورَ وصوله ُجريت لهُ عملية زرع صفيحة في الرأس لترميم الجمجمة. وأنهُ بعدَ التشخيص اتضحَ أنَّهُ قد أُصيبَ بجرحٍ بالغ في الرأس.
بقيَ عبدالله لثلاثة أيام في العناية المشدَّدة ومن ثمَّ لخمسة أيام في المستشفى. وبعدها راحَ زوجي وأبوعبدالله إلى الحدود التركية وجاؤوا بالطفل…
نعم الطائرة لم تقتل عبدالله، لكنها قتلت نصفهُ… عادَ مع شللٍ نصفي في اليد والقدم اليُمنى، وأصابتهُ صعوبة في النطق! نجا من الموت، لكنهُ لم ينجُ من قتلِ طفولته.
لم يعد عبدالله قادراً على اللعب مع الأطفال… لم يعد قادراً على الذهاب إلى المدرسة، وأن يمسك قلمه… لم يعد قادراً على الركض هرباً من الطائرة كما جرَت العادة.
حالُ عبدالله اليوم يُبكي… ولا تدري أتحمد الله على نجاته، أم تشفق على حاله الذي يتجاوز الموت صعوبةً؟!
نور الهدى إدلبي (39 عاماً)، متزوجة منذُ 18 عاماً، وأم لثلاثة أولاد. حاصلة على شهادة البكالوريا – الفرع الأدبي.