الطائرة تغتال أحلام تلاميذي
أنشطة الرسم الترفيهية التي تقدمها المعلمات للأطفال في مركز الدعم النفسي "فسحة طفل" في حي بستان القصر بحلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
"كانت تصرخ: أعيدوا طفلي. وأنا كنتُ أنوحُ في قلبي: أعيدوا لي تلميذي"
عشقت ذاك المكان الحنون الدافئ الذي يعج بضحكات الأطفال. الصف حيثُ كنتُ أُدرّس… مكان يمتلئ بالأمنيات البريئة… ما أجملهُ من مكان، وأنا المدرّسة، وتلاميذي الصغار من حولي.
كان محمد (8 سنوات)، واحداً من تلاميذي المجتهدين، ومثالاً للتلميذ المهذّب المثابر، المُفعمِ بالحيوية والهدوء، الذي يزيّن الصف بطلته البهيّة… دفاتره الصغيرة وأحلامه الوردية لا أنساها… كانت تحكيها كلماته الجميلة.
أذكر ذلك اليوم، عندما بدأت حصة التعبير، وكان موضوعها الطموح. حينها جذبني محمد بكلامه الذي يفوق عمره. بدأ موضوعه بمقولة: “طموحي أن أحرّر وطني من الظالمين وسفّاكي الدماء”. حينها آمنتُ بأنّ سوريتي ستنهض من جديد وتُعانق السماء، كيف لا وأطفالها أشدّاء أذكياء؟
أكثر ما أبهرني بمحمد، ذاك البريق الثائر في عينيه البريئتين، وكأنهما قبس من شمس بلادي، التي لا تعرف المغيب… كنتُ كلما أدخل إلى الصف، وأنظر إلى ابتسامة محمد، أشعرُ بأملٍ كبير يفوحُ من ابتسامته الندية.
تنطبع ابتسامته في مخيلتي وتأبى أن تفارق خاطري للحظة.
وبينما أنا في طريق عودتي إلي بيتي، قطعَ شرودي دوي طائرة مجنونة استهدفت القرية. لطالما كانت قريتي هدفاً للقصف. لأنها قريبة جداً من ريف حماة الشمالي، رغم أنها تتبع لإدلب. هي دوماً على خط النار…
الطائرة استهدفت مدرستي الهادئة في وسط القرية… اغتالت أحلام الطفولة، التي كانت تغازل المكان للتو. غرقت الأحلام في الدماء وسط الطريق الذي كان يمشيه التلاميذ.
منذ قليل كان محمد يعتلي دراجته الصغيرة، التي أهداه إياها والده يوم نجاحه في الصف الأول. كان يحمل كتبه وأمنياته، خارجاً من المدرسة باسماً، ليسقط شهيداً للعلم والوطن. يده الطرية التي كانت تُمسك بالقلم، صارت مبتورة.
بقيتُ في الشارع، وصار صوت الثكالى يرتفع… كلما وصل حدَّ البكاء والفجيعة درجة كبيرة، أعلم أنّ تلك مات ابنها! أصوات، بكاء، ضجيج سيارات الإسعاف…
يد محمد المبتورة مرمية في المدى، وكأنها تأخذ بأيدينا الى آفاق حريتنا الموعودة. ستبقى صورة والدته الفتية المفجوعة، ترافق مخيلتي المتخمة بالأمل والألم. مخيلة تتسع لابتسامة محمد ولصوت بكاء أُمِهِ في آن… كم هو من تضاد مؤلم!
عندما احتضنت الأم طفلها الشهيد، ومسكت يده المبتورة، محاولة أن تعيدها إلى مكانها، كانت تصرخ:
“أعيدوا طفلي”. وأنا كنتُ أنوحُ في قلبي: “أعيدوا لي تلميذي”.
عندما أراد أفراد فرقة الدفاع المدني أن يأخذوا محمد من حضن أمه، رفضت!
“لا أريدُ أن أُعطيكم إياه”… كانت تقول وتضيف: “محمد لم يمت، أخبرني أنه سينال اليوم جائزة تكريمه عن موضوع الإنشاء الذي ألقاه البارحة عن الأم… كنتُ أنتظره ووعدته بتحضير الحلوى التي يحبها… أعطوني حقيبته، أين الجائزة؟ حصلَ عليها؟” كانت كلماتها أقوى من صوت الطائرة الحقيرة.
وإذ بامرأة، تقترب من أم محمد بهدوء متحدثةً معها بكلمات ملئية بالإيمان واليقين…مسحت لها دموعها قائلة: “أولادي الثلاثة خرجوا منذ سنتين إلى مدرستهم ليُحضروا شهاداتهم، ولم يرجعوا حتى الآن”.
هدأت أم محمد، ونظرت للسيدة وبكيتا بكاءً أخيراً مُرفقاً بعناق… ثمّ سمحت لها أن تأخذ منها محمد، وتُسلّمه لفرق الدفاع المدني…
ما ذنب الأطفال؟
ما ذنب تلميذي محمد؟
اغتالوا أحلامه وأحلام كثير من الأطفال…
لكننا شعب، يصنع العيد والنصر متى يريد. وها نحنُ ماضون…
سيأتي النصر، والطائرة التي اغتالت أحلام تلاميذي ومنهم محمد، لن تقوى على قتل الحلم، الروح التي تبقى، لو ذهبت الأجساد… حلمُ محمد ما يزال هنا، ويكبر ونكبر معهُ… وهو سبقنا إلى السماء، وتمجّدَ حلمه أكثر فأكثر…
ردينة عبد الكريم (29 عاماً). تحمل إجازة في الدراسات العليا للتأهيل. نازحة وتعمل مؤهلة اجتماعية في ريف إدلب، بعدما كانت تعمل كمُدرّسة.