الضرب… الدرس الأول في الحرية

تتزامن إمتحانات نهاية العام الدراسي مع الاحتجاجات والمظاهرات في شتى أنحاء البلاد. الكثير من الطلاب يخرجون من القاعة في الجامعة ليدخلوا في إمتحان آخر من الصعب معرفة نتائجه، مثل أحمد طالب السنة الخامسة في كلية الهندسة المدنية. الدقائق التي تمر تزيد من توتره. يرتدي بنطال الجينز والحذاء الرياضي، ويركب آلة التصوير الخاصة به في جيبه العلوي من قميصه. يتنهد بعمق ثم يخرج. يغرقه نهر الطريق بالأفكار التي رتبها مع زملائه منذ أيام. فالخطوة الأولى هي الاقتراب من باب المسجد مع نهاية الصلاة، والخطوة الثانية التركيز على مكان ليصور منه دون أن يراه أحد، والخطوة الثالثة أن يرسل الصور إلى الشبكات الإعلامية العربية والعالمية.

آلة مهمتها الأولى والأخيرة الضرب والقتل

وصل في الموعد المحدد، وبدأ صوت التكبير يخرج من المسجد، لكن لم يستطع اتخاذ مكانه بالنحو المطلوب للتصوير نتيجة الكثافة الأمنية في المنطقة. يحاول رجال الأمن منع رفع أي آلة تصوير أو هاتف محمول لتوثيق عملية القمع الدائرة أمام ساحة المسجد، التي خرج منها المتظاهرون هاتفون “الله أكبر، الله أكبر” ليواجههم الأمن بالصمت في بادئ الأمر. وما أن يتعاظم عددهم خارج المسجد حتى تحين ساعة الصفر وينطلق المئات من رجال الأمن يحاصرون المتظاهرين رافعين بوجههم العصي والهراوات.

لم يستطع أحمد التصوير بالنحو المطلوب، فأجبر نفسه على الاقتراب من التظاهرة ليرى ما يحصل، مع استمرار عمل آلة التصوير النائمة في جيبه. انخرط بين المتظاهرين، وهتف معهم “حرية، حرية، سلمية سلمية” ووجدت الهراوات والعصي الكهربائية طريقها لتسقط على رأسه وكافة أنحاء جسده.

الهراوات والعصي الكهربائية على رأسه وكافة أنحاء الجسد

المقاومة في هذه الحال مهما تعاظمت تبقى ضعيفة، فأمام عشرات الهراوات وعشرات من عصي الكهرباء لن تحمي الأيادي، وأمام القنابل المسيّلة للدموع لن تصمد الهتافات، والعظم الطري الذي اعتاد الجلوس على مقاعد الدراسة، وفي المختبرات العلمية وعلى طاولات الرسم، لن يواجه الوجوه العابسة القاسية التي تدربت عشرات السنوات في أماكن خاصة، لتتحضر لهذا اليوم، ولتتحول لآلة مهمتها الأولى والأخيرة الضرب والقتل، الضرب حتى أمر التوقف فقط.

لاقيمة للزمن عندما نفقده، فآلية الضرب التي تلقاها أحمد أصبحت دقات ساعة مجنونة تعرضت لتيار كهربائي عالي التوتر، لتسبق الدقائق الثواني، ولتسبق الساعات الدقائق وليصبح جسده بلا إحساس.

نسي الألم، أو لم يشعر به حتى، فالحرية التي يسمع بها في مدرسته وجامعته وشعارات حزب البعث التي كانت تزرع في أنفه كل صباح، وجدها في هراوة رجل مترافق مع شتيمة، كانت بالنسبة إليه إطراء لأنه أخرج المارد من قمقمه، وشعر كم الحرية جميلة حينما يمارسها الإنسان.

لا يعرف كم عدد الضربات التي تلقاها، ولا عدد الأشخاص الذين يضربونه، لكنه عرف شيئاً واحداً أنه لم يعد يستطيع المشي على قدميه، وأن رأسه تفجرت الأنهار منه، مترافقة مع بحيرة من دماء أحاطته، ليختمها أحدهم برفسة في وجهه أنارت الكثير من الأضواء أمام عينيه لتنطبق عليه مقولة “شاف النجوم بعز الظهر”.

صرخة أحد المسؤولين ضغطت رز الـ (OFF)  في آلات الضرب فتوقفت، تركته مرمي على الأرض، مع ابتسامته لأنهم تركوه دون أن يأخذوه معهم، ليتجهوا إلى متظاهر آخر أو طالب آخر. ليس لدروس الجامعة تدرس وإنما لدروس الحياة التي علّمت الناس أن تمارس الحرية لا أن تطلبها فقط.

تحامل على نفسه وبدأ الزحف بعيداً عن ساحة المسجد، فعملية الكر والفر التي يمارسها المتظاهرون، إستراتيجية تتطلبها المعارك الدائرة على الساحة السورية منذ ثلاثة أشهر وتزيد بين المتظاهرين المطالبين بالحرية، ورجال الأمن الذين فقدوا الحرية، ليجد من يمد يده ويحمله بعد أن أعادت إليه هذه المعركة إحساسه بإنسانيته.