الصديق المهندس عبيدة أرناؤوط

أصبح ذلك اليوم الخريفي الذي التقيت فيه صدفة بعبيدة يوماً لا ينسى في حياتي. كنت عائداً من جامعتي في دمشق إلى حلب. توقفت الحافلة في مدينة أبي الفداء، صعد راكبون من بينهم شاب وسيم الوجه، مفعم بالحيوية والنشاط، جلس بجانبي والفضول يدفعني للتعرف عليه. بدأت أتقرب منه وأتحدث إليه ولمست منه تجاوباً في الحديث والتعارف. حدثني أنه من حماة ويدرس في قسم الهندسة المعمارية في جامعة “الاتحاد” في مدينة منبج التابعة لمحافظة حلب. كانت أفكاره الهندسية تتبلور وتنبض من خلجاته وتدل على أنه سيكون مهندساً معمارياً ناجحاً في حياته. كان يشاركني أفكاره ومشاريعه الهندسية الطموحة. انتهت بنا الرحلة في مدينة حلب، ولكن صحبتنا لم تنته. فقد تبادلنا عناويننا وأرقام هواتفنا كي نتواصل في الأيام القادمة. أكملت الرحلة وحدي وأنا اتلمس ما تركه هذا الشاب بداخلي من غرابة وكأن معرفتنا قديمة منذ الأزل. بقي هذا التواصل بيننا ونحن نسأل عن بعضنا بين الفينة والأخرى.

كان اتصالنا متقطعاً حتى وصل للسنة الأخيرة من دراسته. أخبرني أنه في طور إنجاز مشروع التخرج الذي كان بمثابة حلم حياته. وبالفعل انجز مشروعه الضخم والنادر وهو “حلبة سيارات الفيراري” الذي قدمه في الجامعة ونال عليه درجة عالية بامتياز مصنفاً من أوائل دفعته في الجامعة. فرحت له كثيراً وكان آخر اتصال مباشر بيننا.

إيمانه بالثورة

وفي ظل أحداث الثورة السورية التي صادفت نيله شهادة الجامعة النهائية كنا نتواصل عبر الانترنت. منذ اليوم الأول من الثورة كنت أرى في داخله بركاناً ثائراً من الحماس. كان يحدثني عنها ويشجعني على الاشتراك بها.

كان يحدثني عن بطولاته كلما خرج في مظاهرات، كيف أنه يسير في الصفوف الأولى وهو يحمل أغصان الزيتون والورود، يتربص أي مظاهرة ليشارك فيها داعياً ومشجعاً رفاقه على الخروج. كان يحمل الأطفال على كتفيه في مظاهرات حماة، حتى قبيل إمتلاء ساحة العاصي التي أبعدته عن أصدائها رصاصةٌ غادرة اخترقت قلبه.

ليلة يوم الجمعة والتي تسمى “جمعة أطفال الحرية” في أجندات ومذكرات الثورة السورية انتابني شعور غريب وكأن شيئا بداخلي يدفعني لمعرفة ما يجري بمدينة النكبات والصمود مدينة حماة التي ذرفت دمعاً في ذاك اليوم على أكثر من مائة شهيد. ولكن لم أصل إلى نتيجة بسبب انقطاع الإنترنت والاتصالات فيها. في اليوم التالي عند الظهيرة حاولت الاتصال بعبيدة عبر الانترنت وقلبي ينتابه الخوف، ولم أنجح. بحثت في الصفحات عن اسماء الشهداء وتفاجأت بأن أحد هؤلاء الشهداء هو عبيدة ارناؤوط. تجمدت في مكاني ولم أعد قادراً على التفكير والإدراك. حاولت الاتصال بأحدٍ ما ينفي أو يؤكد الخبر. تذكرت وقتها وجود شخص آخر مشترك بيننا تجمعه صلة صداقة وأخوة قوية بعبيدة. حاولت البحث عنه وبالصدفة رأيته دخل النت فأسرعت في التواصل معه وأنا أقول أرجوك أنفي لي هذا الخبر. ليجيبني بأن الخبر صحيح فلم أرى نفسي إلا والدموع تغمر عيناي.

في تلك اللحظة دار شريط ذكرياتنا أنا وعبيدة في مخيلتي. تخيلت والديه وأخوته وهم يسألونني وأنا في حيرتي ألن تبارك لنا بعرسنا؟ فلقد كتب الله أن يكون لنا نصيب بين شهداء الجنة الأبرار.

في هذه اللحظة كرهت كل هذا العالم الافتراضي وندمت لبحثي عن هذا الشخص وأنا أحدث نفسي ليتني لم أراك يوماً لأني لن استطع نسيانك. فكرت في الإتصال بأهله. ولكن ماذا سأقول لهم؟ كيف أسألهم؟ كيف سأواجه حزن أم عبيدة؟ ماذا أجيبها؟ هل أتخيل أهله وأحبائه وأصدقائه وهم يزغردون لعرس شهيدهم؟ أم أتلمس نواحهم وبكاءهم الذي هز كل حماة؟

عبيدة الذي نال شهادته في الهندسة المعمارية بترتيب أول على الجامعة كان يلملم أغراضه استعداداً للسفر إلى دولة أخرى. كان موعد السفر قد تحدد، كان عليه أن يغادر سورية بعد يومين من استشهاده. كان عبيدة يريد أن يشم بعض نسائم الحرية التي ستشبعه في رحلته الطويلة فخرج مع المتظاهرين الآخرين ليهتف معهم بالحرية والكرامة.

عبيدة ابن الستة وعشرين ربيعاً لم يكن يعلم أن الطريق الذي يفصله ما بين السفر والشهادة شعيرة بسيطة. هو اختار الرحيل، ولكن أي رحيل اخترت؟ فالرحيل المجبر بحثاً عن العمل والمستقبل مؤلم ولكن رحيل الموت أكثر ألماً.