الذلّ لا الخبز أبكاني
هي رحلة يوم كامل، تمتد بين دمشق وغوطتها التي لا يكاد يفصلها عنها سوى بضعة كيلومترات، وحواجز مع الكثير من الخوف.
علي الذهاب إلى هناك حيث افتتحنا مركزا ثقافياً. وعليّ أن أتواجد فيه ما أمكن. أقسّم أيام الأسبوع بين بيتي الصغير في دمشق والمركز. العمل بحاجة لالتزام كبير ولوقت لا أستطيع منح الكثير منه دوماً، إذ عليّ أن أجد طريقة لكسب عيشي، من خلال الكتابة.
لا أحب تلك الصباحات عند الرحيلين، من دمشق إلى الغوطة وبالعكس، في أحد المكانين غذاء وكهرباء ومواصلات ولباس اعتدته، مع رعب يسكنني كل ليلة. وفي الآخر أمان من اعتقال ولكن لا غذاء أو اتصالات أو خروج في الظلام، ولباس لا يشبهني. في أحدهما فصام أشبه نفسي فيه شكلاً ولا أجرؤ على أن أشبهها فعلاً، وفي الآخر عكسه.
بعد معاندة طويلة وتأرجح بين خوف وواجب، رغبة وضدها، أرتب أغراضي التي سآخذها والكثير مما يوصيني به الآخرون: ثياب داخلية نسائية، نقود أوصلها خفية بين ثنايا ملابسي، حذاء صيفي على الموضة، شوكولا غالية الثمن لا تجد منها في الحصار وأهم من كل شيء الخبز. منتصف عام 2013 فرض النظام حصاراً غذائياً على غوطة دمشق الشرقية، منع خلاله دخول سيارات الطحين والغذاء إلى بلداتها، ليستعين السكان بما يمكن للقادمين جلبه وتهريبه من غذاء. كان علي إحضار ما أستطيع من خبز كخدمة إضافية لا بد من تأديتها لكثير من أصدقاء عالقين هناك.
كانت الكمية المسموح بها تنخفض باستمرار. كنا ندخل ربطتين أو ثلاثاً كل فرد، ثم لم يعد يسمح إلا بواحدة، لكن المتنقلين بين المنطقتين كانوا يسعون دوماً لاخفاء الطعام في ثيابهم أو داخل أماكن يأملون أنها قد تنجو من التفتيش الشديد لباص الركاب. بعض الركاب كانوا يتلون آيات قرآنية ليحجب الله ما يحملون عن بصر حراس الحاجز .
نعرف ما علينا فعله عند الوصول إلى مشارف الطابور الطويل. نترجل من الحافلة ونكمل سيراً على الأقدام بين السيارات المتوقفة بهدوء مفزع. نسير وننثر أسئلتنا حولنا: “كم لبثتم هنا؟”. قد يكون الجواب ساعات أو أيام، فنحثّ السير لنجد كرسياً متاحاً في السيارات الأقرب للحاجز، نركبها وننتظر الوصول. تمضي الساعة الأخيرة قبل الحاجز بطيئة ومليئة بالترقب، وبصمت لا يخرقه إلا صراخ العسكري على أحدهم أو بكاء إحداهن. أذكر عند الحاجز امرأة ترجو أحد العسكريي أن يتركها تدخل حيث ابنها، خلف باب حديدي كبير أصبح السجن المؤقت للحاجز، بعد أن كان ملهىً ليلياً في السابق.
الحاجز عند محطة محروقات لم يبق منها إلا سقف متعب والسور المحيط. عند بداية السور تتراص بحجم غرفة كومة كبيرة من أكياس الخبز والخضار. العساكر يصرخون بالعابرين أو يسخرون منهم، تشعر باللاتعاطف النهائي الذي يكنونه للعابرين. يخبرنا أحدهم قبل الوصول إلى نقطة التفتيش: “أخرجوا المسلحين من عندكم فنسمح لكم بإدخال الخبز”.
المرأة، الخبز المرمي على الأرض، العنف المتصاعد والتفتيش زائد الصرامة، كل هذا جعلني أدرك أن اليوم مختلف. تأكدت من ذلك حين نزلنا جميعاً من الباص للتفتيش، وأخذ العسكري كيس الخبز من سيدة مسنّة ورماه أرضاً. بدأت تقترب منه برجاء، وتدعو أن يوفقه الله ليدعها تدخل هذا الخبز لعائلتها، وهو ينهرها لتبتعد عنه وهو يفتش بقية الركاب ويدقق بهوياتهم. المرأة تزداد برجائها توسلاً والجندي يزداد عنفاً. أدركت أنني لم أعرف أن نظام المسموحات المعتاد تغير حتى وقتها، تركت ما جلبت من خبز على الأرض ووقفت أنتظر. وسط كل هذا احسست أننا بتنا في مكان مختلف تماماً عما أملناه بداية العام 2011، الأمل بالأفضل والرغبة العارمة بالحرية والاحترام راحت غير مأسوف عليها عندما طبق الجوع عقوبة. أحسست بحرارة على خدي لكني لم أدرك أني غارقة في البكاء حتى سألني العنصر: “لم تبكين؟” وجلت دون أن أعرف بم أجيب، بالركاب الواقفين خارج الباص يحدقون بي خائفين من ردة فعل من العنصر قد ينالهم منها السوء. أعاد الأخير السؤال ثم أشاح بوجهه متمتماً متذمّراً، ثم قال لي: “خذي خبزك، وأنت أيضاً خذي أغراضك” مخاطباً المرأة المسنة، وتوجه إلى الركاب بالقول “خذوا أغراضكم جميعاً واغربوا عن وجهي”.
حمل الجميع حاجاتهم وصعدوا على متن الباص الذي انتهى العناصر من تفتيشه، وانطلق به السائق ضاحكين. كانت السعادة غامرة بالوصول بعد دقائق إلى مناطق المعارضة مع أغراض بسيطة سمح لهم باصطحابها.
آلمني عندها أن يومياتنا باتت هكذا، نفرح ونشكر عساكر يذيقوننا كل مهانة إن سمحوا لنا بإدخال ربطة خبز أو كيس بندورة. أين نحن من كل ما خرجنا من أجله وكيف أصبحنا هنا، يقف المئات من السكان أمام عشرة عساكر صاغرين، لا يستطيع أحدهم التذمر، بل كل ما يريدون هو إدخال غذاء ليأكلوا، لم يبق لي ولهم شيء، لا بل إني استفدت بشكل صارخ من تمييز جندري كوني امرأة، تسلحت بأنوثة الضعف والبكاء لتحصيل حاجاتي، ساءني هذا وإن كنت لم أقصده، ثم ساءلت نفسي أي رفاهية أعيش لأفكر بهذا في ظل كل ما يحدث حولي، ولم أتوقف عن البكاء.
مع نهاية العام 2013، فرض النظام على المنطقة حصاراً منع فيه كل شيء. لم يعد أحد يدخل أو يخرج إلى الغوطة، وبات الحصار هو الحقيقة التي على السكان أن يعتادوها.
كل من في الباص كان يقول لي يومها: “دائماً ابكِ، دائماً ابكِ” لكن المرأة المسنة سألتني: “لم بكيت؟ ألأنه لم يسمح لك بإدخال أغراضك؟”، قلت لها “لا” وقلت لنفسي على انعكاس زجاج النافذة المطلة على خراب رمادي لا ينتهي، “الذل أبكاني”.