الخطاب الديني في سوريا بين التخدير والتجييش

 

يبدو أن الثورة السورية ترسم خطوط ثورتها بعيداً من الخطوط التي سبقتها، خصوصاً في مصر، وذلك مهما كانت رغبة الثوار السوريين بأن تجري الأمور على غرار ما جرت في الثورة المصرية

سفكت دماء العشرات خلال الأيام الأولى من الثورة السورية، مما أكد أسلوب النظام السوري في التعامل مع المتظاهرين، ناهيك عن تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لتأخذ الثورة مجريات دامية وسيناريوهات درامية روّج لها الإعلام السوري بشكل مضحك.

وبدا جلياً إن النظام كان مستعداً لتلك التطورات، من خلال سيناريوهات أعدت مسبقاً في أقبية مخابراته فتمّ تلفيق الأكاذيب. والتهم جاهزة، والتعتيم الإعلامي يمارس بكافة أشكاله، ولا يعمل بحرية على الأرض (من بين وسائل الإعلام التقليدية) سوى الإعلام الرسمي الذي يغطي الأحداث بطريقته الملتوية الخاصة حيث يعمل على تجييش رجال الدين أيضاً! ولا يعود مستغرباً كلام بعض رجال الدين الذين لا ينبسون ببنت شفة إلا بعد موافقة أمنية مسبقة مهدت لهم أن يصبحوا إما وزراء أو مفتين أو خطباء.

فعلى مدار أكثر من أربعين عاماً، قام النظام الأحادي السوري بالتهيئة لنظام ديني موالٍ له، وضرب بيدٍ من حديد كلَّ من خرج عن السياق المفروض من السلطة، كما هدم مدناً بكاملها على رؤوس قاطنيها في سبيل أن ينفرد بالساحة ويجعل الخطاب الديني يهتف بحياته وبمسيرته.

هكذا، يتسم الخطاب الديني (الرسمي) في سوريا بقالب موحد، ويسير ضمن سياق موحد ومسبق تحدده وزارة الأوقاف، الموجهة أمنياً أيضاً. حتى قبيل، وفي أثناء التظاهرات، راح الخطاب الديني يحقن المجتمع بإبر تخدير، من تحت عباءة الدين، داعياً الناس للانتظار ريثما تحقق مطالبهم، ومشتغلاً على زرع الفرقة بين الصفوف باسم الفتنة وزعزعة الأمن وعدم طاعة ولي الأمر.

ولم يكتف رجال الدين بذاك، فقد أدوا دوراً سلبياً في إحباط الهمم، وزرع الخوف في صدور المواطنين، ودعوتهم لعدم الخروج حتى إلى صلاة الجمعة بفتوى منهم! بل ورموا “الحرم” على نزول النساء إلى الساحات للتظاهر، على اعتبار أن ذلك شكل من أشكال الاختلاط.

ومثل هذا الخطاب غير مستبعد ممن أئتمنتهم السلطات الأمنية على منابر الجوامع، بل وجعلت منابر الإعلام الرسمي متاحة أمام “فقهاء” و”علماء دين” من قبيل السيد محمد سعيد رمضان البوطي، ومفتي الجمهورية العربية السورية، وغيرهم، تأكيداً على أن طعام معاوية أشهى من جنة علي.

إن هذا النوع من هذه الخطابات ما عاد ينطلي على الكثير من المواطنين، لكن عامّة الشعب السوري ذا الخلفية الدينية ما زال لا يستطيع الفرار منها.

على ما يبدو، شعر الكثيرون من رجال الدين، والذين لزموا الحياد في مطلع الاحتجاجات، بلزوم التصدى لـ”دين السلطة”. ورغم التواجد الأمني الكثيف، فقد أبدى بعض المشايخ ورجال الدين تضامنهم مع المتظاهرين، وعلى رأسهم المعتقل الشيخ عماد الرشيد، ورجال من الطريقة الخزنوية. وهذا ما يؤكد على أن الساحة السورية لم تخلُ من رجال الدين النزيهين والذين هم من نسيج هذا المجتمع، وأن التشريع الديني غير محصور بفئة منهم.

والظاهر أن النظام يلعب على كسب ثقة من بقي على الحياد من أفراد شعبه، لكن إعلاماً أمنياً يكذب حتى في أخبار الطقس يصعب عليه كسب أحدٍ منهم.

يبدو أن حركة التظاهرات تأخذ شكلها الشعبي، ممهدة الطريق أمام ثورة شعبية كاملة، لتلعب مع النظام لعبة النَّفَس الطويل في صراع يتجه به المتظاهرون في سياسة اللاعنف وبالصدور العارية التي تقابل رصاص أجهزة الأمن، فيما يحاول النظام الأمني أن يرتدي ثوب النزاهة والعقلانية والحسّ العالي من الديموقراطية.

وقد أخذت لائحة العار تطول، ليكثر فيها رجال الدين الذين لا يتوانون عن المشاركة في تضخيم الثمن الباهظ الذي سيدفعه الشعب السوري. لقد حان الوقت ليقف كل مواطن أمام مسؤولياته وواجباته في هذا الظرف الدقيق.