الحرب علّمتني كيف أصنع الخبز
الخبز أصبح عملة نادرة تصوير أحمد السليم
في 18 تموز/يوليو 2012، اقتحمَ شبّيحة النظام منطقتَي العسّالي والقدَم في دمشق. كنت أسكن مع أهلي في حي السبينة المُجاور … خفنا كثيراً من أن يصل الشبيّحة إلى حيّنا، فنحنُ نخشى إجرامهم، ولم نعد نعرف ماذا نفعل وإلى أين نذهب! … الجميع خائف، الجميع مرعوب!
بدأتُ أتخيّل أنَّ الشبيحة قد وصلوا إلى الحَي، وصاروا يمُارسون إجرامهم علينا! لا نريد أن نموت على أيديهم، صرنا نقول أنَّ الموت تحت الأنقاض نتيجة القصف، أرحَم بكثير من الموت بين أيدي الشبّيحة!
إخواني الشباب، بدأوا يتوقعون ما سيحصل: “حسناً سنختبئ، ولن نفتح الباب لهم”! ليتدارك أخي ويقول: “لكنّهم سيخلعون الباب، لن ينتظروا أن نفتحَ لهم”!
كنتُ أتوقع قدومهم، وأتوقع الموت على أيديهم، الشبّيحة يسبّبون للسوريين خوفاً قاتلاً. وتشعر وكأنكَ، ليس بإمكانك أن تفعل شيئاً.
خوفي تبدّدَ قليلاً، بعدما وردنا خبرٌ بأنَّ الثوَّار تصدوا للشبيحة وقوات النظام، ومنعوهم من دخول حي سبينة. شعرتُ أنَّ الحياة عادَت إلَي.
لكنّ الخوف عاد للظهور مجدّداً، بعدما جاء جارنا يخبرنا عن قتل الشبيّحة لصديقه في حي العسالي، رمياً بالرصاص، مع مجموعة من الشباّن. صارَ جارُنا يروي لوالدي ما رآهُ، وهو يبكي: “أطلقوا على صديقي وابل من الرصاص… يا الله، ماذا سيفعل أبناؤه من بعده، ما ذنبهم؟!”
اسودّت أيامنا، وبدأ الناس بالنزوح… ولم يبقَ في الحي سوى عددٌ قليل من العائلات. صارَ الوضع مآساوياً للغاية، بلا محلات للخضار والطعام، وقوّات النظام لا ترحَم!.
كان في حيِّنا فرن، تعرَّضَ أيضاً للقصف، وأُصيبَ مَن فيه، فتوقَّفَ عن العمل. نفذَ الخبز، لا يوجد خبز!
في البداية، كنّا نأكل الخبز اليابس ونضع عليه القليل من الماء كي يصبح طرياً. لكن بعد ذلك ماذا نفعل؟
في يوم، كانت الإشتباكات عنيفة جداً، وأصوات الرصاص لا تهدأ… كان لدينا كيس من الطحين، ولا يوجد لدينا خبز، اقترحت أمي أن نصنع من كيس الطحين خبزاً على الصاج. كانت الفكرة غريبة وجديدة بالنسبة لي!
وفعلاً، صرنا نحضّر الخبز أنا وأمي، على وقع القذائف التي تسقط على الحي، الواحدة تلوَ الأخرى. يا لهذه المفارقة، بين أن تكون تحت الموت، وأنتَ تصنع وسيلتك للبقاء على قيد الحياة، في ظل نفاذ المواد الغذائية.
كان لا بدَّ من أن أضحك في حينها، فإخوتي الصغار صاروا يعايرونني أنني لا أُجيد صناعة الخبز! ضحكت وقلتُ لهُم: كُلوا، بدل من أن نموت جميعاً! وأكلوا من خبزي المحترق… وكان أطيب خبز!
مرّت الأيام هكذا… ببطءٍ شديد… لا ماء لا كهرباء لا طعام… صارَ الحي شبه خالٍ من الناس.
عشنا الحصار… فأن يأتي العيد ولا تشعر بالعيد… أن تفتقد لطقوس الحياة التي كانت موجودة، أن تشتاق لزيارة الأهل والأصدقاء….
ربما تأقلمنا؟ نعم… لكنّ البكاء كانَ سيِّد الموقف في لحظاتٍ كثيرة.
وكان القبو شريكنا، كلما احتدّ صوت القصف، ركضنا إليه…
وحين نعود إلى المنزل، على صوت الرصاص، تقول لي أُمي: “لم يبقَ لنا أي فُتات من الخبز، ولم يجد والدكِ في السوق أي ربطة خبز ليشتريها… هيّا بنا نخبز”!
صرتُ أخبز، بعدما اعتقدتُ أنّ ذلك كانت تفعله جدتي ولن أفعله كإبنة هذا الجيل…
نعم، الحرب علّمتني كيف أصنع الخبز كي لا أموت أنا وإخوتي…
وللمفارقة، صرتُ أصنع أطيبَ خبز.
ريم الحسن (19 عاماً) تركت الدراسة بسبب ظروف الحرب. تعيش مع أهلها، وتعمل كمذيعة ومراسلة لراديو فرش في كفرنبل في إدلب.