الحارة خلف الجدار
يقع بيتي في شارع عبد القادر بدران، وهو شارع رئيسي في مدينة دوما. عندما كان الامن السوري يقتحم المدينة، كان يمر من هذا الشارع و يبدأ حملة المداهمة والاعتقالات.
في 20 حزيران/ يونيو 2012، كان النظام السوري بدأ باستخدام قذائف الهاون بقصف المدينة. و بدأ الجيش الحر ينتشر بأحياء المدينة خوفاً من اقتحام النظام لبيوت الأهالي. البناء الذي فيه منزلي له طريق خلفي يوصل إلى حارة مجاورة، نستطيع من خلالها أن نخرج من البناء دون أن يشعر بنا الأمن. عائلة زوجي كلها تسكن في هذا البناء المكون من ثلاثة طوابق، وبيت قديم مجاور مفتوح على مدخل البناء، ومنه نستطيع الدخول الى تلك الطريق الخلفية.
في ذلك اليوم أحسسنا منذ الصباح الباكر باشتداد الهجمة الأمنية. زوجي لم يكن معنا يومها، هو يعمل في النقل الخارجي. ابنتي كانت تنام حيث تعمل في المشفى المخصص لمعالجة الجرحى. ابني ذهب إلى العمل قبل يوم ولم يعد بعد. بقيت أنا ووالدة زوجي الكبيرة في السن، وابنتي الصغرى التي كانت تدرس لامتحانات الشهادة الثانوية، مع شقيق زوجي حسين وزوجته وطفليه الصغيرين وشقيق زوجي خالد الذي كان نظره ضعيفاً. أحسسنا بقدوم الدبابة من الشارع العام، خفنا كثيرا من أن يقوم الأمن بالمداهمة و يعتقل أحدنا، فحاولنا أن نهدأ بشكل كامل، كي لا يشعر الأمن بالحركة داخل البناء فيقتحمه. قامت سوسن بإسكات طفليها، ناما وهما ينظران إلى وجوهنا المرتعبة نظرة استغراب. أما ابنتي فحاولت أن تشغل نفسها بالدراسة. بعد وقت سمعنا صوت سيارة تدخل من الشارع، سمعنا حركة معدد كبير من الجنود. كانت الساعة أصبحت الثانية عشر ظهراً لم تعد حماتي الطاعنة في السن تستوعب ما يحدث. من شدة خوفها بدأت تتكلم بكلام غير مفهوم، وتقول أنها تريد أن تتسلق جدار الحديقة وتذهب إلى الحارة وتهرب. كنت أطلب منها أن تهدأ، خوفاً من أي حركة خاطئة تؤدي إلى مقتلنا. في تلك الأثناء صوت إطلاق 10 رصاصات، كانت تستهدف البناء بشكل مباشر، اخترقت تلك الرصاصات الجدران وعمّ الصمت القاتل بيننا. صوت الرصاص أيقظ ابراهيم وسارة فوضعت سوسن مباشرة يديها على فمهما لتكتم أصواتهما. كانت ترتجف بشدة من كثرة الخوف.
بقينا على هذا الحال حتى الساعة الخامسة عصراً، لم نعد نسمع صوتا في الخارج. تسللت إلى الغرفة الأخرى، وضعت شريط الهاتف وقمت بالاتصال بابني على هاتفه المحمول. أخبرته بما حدث معنا. قال لي بأن الأمن يحاول اقتحام دوما. طلب مني أن لا أفزع و بحلول المساء سوف يأتي إلى المنزل من الخلف و يخرجنا جميعا.
عدت إلى المطبخ بهدوء، حاولت أن أبحث عن بعض الطعام أسكت به جوع الصغار وحماتي الكبيرة. أعطيتهم ما وجدت مما يمكن أن يسد عن جوع. وعدت أقرأ القرآن بصوت منخفض لأشعر الجميع بالأمان. اتصلت بشقيق زوجي المهاجر في ألمانيا، أخبرته بمن بقي في المنزل وبوضعنا الحالي. فنحن لا نعلم ماذا سيحدث لنا. أخبرته بعدد الموجودين، ووصفت له ملابسهم خشية أن يعتقلنا الأمن أو أن يقتلنا من دون أن يدري أحد بنا. ذعر توفيق لكلماتي هذه، حاول أن يهدئ من روعنا وأن يطمئننا، ولكنه لاحظ هدوئي وتمسكي برباطة جأشي، فدعا لنا بالصبر وأغلق الهاتف. لم أستطع التواصل مع ابنتي والاطمئنان عنها. أخيرا حلّ المساء، الحركة في الشارع أصبحت معدومة. ما زاد من خوفنا ورعبنا. لا نستطيع التحرك من مكاننا لا نعلم ماذا يحدث في الخارج. الصغار يشكلون أكبر عائق في تحركنا. ليس أمامنا حل سوى أن ننتظر ابني خليل. سارة وابراهيم زادت حركتهما، ولم نعد نسطع إيقافهما. قامت أمهما بزجرهما و توبيخهما دون أن يرتكبوا أي ذنب. أما حماتي فقد طلبت أن تأكل مرة أخرى، فلم أجد طعاماً لها. خفت أن تأتيها نوبة السكري. بدأت أعصابي تنهار فأنا المسؤولة عن كل هؤلاء، ولا أستطيع إلا أن أقوي من عزيمتهم و أهدئهم. اقتربت الساعة من العاشرة مساءً. سمعت صوتاً خفيفا ينادي من الحارة: “ماما …ماما”. كاد أن يغمى عليي من الفرحة. إنه صوت خليل، فأجبته: “نحن هنا”. فدخل من المنزل القديم، وطلب من عمه حسين أن يحمل ابراهيم وزوجته تحمل سارة. وهو سيحمل جدته. أما عمه فستمسك ابنتي الصغرى بيده كي لا يسقط. تسللنا بهدوء إلى الحارة الخلفية، ومنها إلى الحارة الأخرى، هكذا حتى وصلنا إلى السيارة حيث ركبنا جميعاً. لا أعرف كيف اتسعت لنا السيارة، ومضى بنا خليل إلى داخل المدينة. ذهبنا إلى منزل شقيقتي، و بمجرد وصولي وفتحها الباب حتى انهرت أمامها، و بكيت ولم أستطع أن أوقف دموعي و هي تعانقني.