الجوع يقتل الأطفال في غوطة دمشق المحاصرة


سعاد خبية

ملاحظة: جرت جميع المقابلات عبر الانترنت من خارج سوريا.

دون أدنى شعور بالدهشة تتلقى العائلة، صباح  22 كانون الثاني/ يناير 2014 ، خبر موت طفلها محمد الذي لم يكن قد أتم العشرة أشهر من العمر بسبب الجوع وفقدان الحليب والدواء جراء الحصار الخانق الذي تتعرض له مناطق واسعة في سوريا، فيما يهدد الموت أخيه بشار (10 أعوام).

كانت عيون العالم مشدودة في ذلك الصباح إلى شاشات التلفزة تتابع مجريات الجلسة الافتتاحية لمؤتمر “جنيف 2”، فيما العائلة تتأهب لتسلم جثمان طفلها الطفل المتوفى محمد فيصل كبوش، من إحدى النقاط الطبية وهي عبارة عن قبو تم تجهيزه ببعض الأسرة والأدوات الجراحية والاسعافية البسيطة في مدينته جسرين في الغوطة الشرقية استعداداً لدفنه.

تسلم فيصل كبوش (35 عاماً) تقرير النقطة الطبية مع جثة ابنه الباردة والمنكمشة جداً. أما سبب الوفاة، بحسب التقرير، فيعود لإصابة الطفل بسوء التغذية الحاد جداً والجفاف.

طفل في الغوطة الشرقية - صفحة "عدسة شاب دمشقي" على فيس بوك
طفل في الغوطة الشرقية – صفحة “عدسة شاب دمشقي” على فيس بوك

والد الطفل محمد أب لأربعة أبناء أكبرهم في التاسعة، تحدث بصوت متهدج داخل النقطة الطبية “مات ابني لأنه لم يعرف طعم الحليب”، وأضاف “منذ أتى الدنيا ونحن نسقيه مغلي السكر والماء أو مغلي بعض الأعشاب”. لم ترضعه والدته، كما نوه الأب، بسبب إصابتها أيضاً بسوء التغذية والجوع  والخوف والرعب المستمر. وأردف الأب وهو يبكي “أولادي الثلاثة الباقون سيموتون ايضاً إذا لم يرفع الحصار فورا فجميعهم يعانون الجوع الشديد”.

لم تكن هذه العائلة تعاني قبل عام من الحصار من هذا المستوى من الفقر، غير أن شهوراً طويلة من التجويع، وعدم توافر أي مصدر للعيش أو توافر مواد غذائية، جعلهم يعانون اليوم كغيرهم من العائلات.

تقع بلدة جسرين في الغوطة الشرقية التي تضم 60 مدينة وقرية، عدد المحاصرين فيها اليوم نحو مليون ومئة وخمسين ألف محاصر، بحسب أرقام إدارة المجالس المحلية في الغوطة الشرقية، فيما هُجر منها شخصاً انتقلوا إما إلى مناطق أخرى من سوريا أو إلى خارجها. يبلغ عدد الأطفال المحاصرين بحسب المصدر نفسه أكثر من 50 ألف طفل.

تحتل الغوطة الشرقية النسبة الأعلى لعدد القتلى في سوريا. وسجلت اعلى نسبة من الضحايا خلال فترة الحصار الممتد منذ بداية 2013، والتي بلغت نحو ستة آلاف شهيد، من أصل 14 ألفا و410 شهداء، خلال الثورة بحسب ارقام “مجلس قيادة الثورة” في ريف دمشق .

لحق الدمار بمعظم البنى التحية والمرافق العامة والخاصة، ما ضاعف معاناة الاهالي، وانعدمت المواد الغذائية الاساسية ومن ضمنها المخصصة للأطفال كالحليب والاغذية.

كان كثير من السوريون ينتظرون من مفاوضات جنيف الحد الأدنى لمطالبهم، ومنها رفع الحصار عنهم وإيقاف التجويع والقصف، بحسب ما قال الناشط المسعف أبو أنس عمر من بلدة  جسرين، منبهاً إلى أن الوضع الانساني شديد الخطورة في منطقة الغوطة الشرقية عامة من ناحية تفاقم حالة المجاعة وانعدام جميع مقومات الحياة ومن أهمها الدواء والغذاء.

عرض  المسعف ابو أنس عمر فيديو على موقع “يوتيوب” سجله بعد أسبوع على وفاة الطفل محمد يظهر فيه  بشار كبوش، لا يتجاوز وزنه 13 كيلو غراماً بحسب أنس الذي يقول بأن علامات الموت تظهر على جسده وعينيه. رغم أن الطفل، بحسب المسعف، كان قبل اشتداد الحصار يرافق والده في أداء الصلاة في مسجد البلدة، وكان طفلاً حيوياً جميلاً يتمتع بصحة جيدة، غير أنه اليوم تحول الى هيكل عظمي ضعيف جراء إصابته بسوء التغذية الحاد والجفاف الشديد بعد ان فقدت العائلة كل قدرة على تأمين الغذاء لأبنائها، وقد سدت امامهم كل الطرق وباتوا سجناء تلك المنطقة .
يقول أحمد كبوش والد بشار في الفيديو الذي نشر في بداية شباط/ فبراير إن ابنه سيموت قريباً سيلحق بقريبه الطفل محمد الذي قضى قبل أيام وهو. يتخوّف الوالد من مصير مشابه لكل الأطفال ويقر بأنه لا يستطيع أن يقدم شيئا لابنه. يتساءل أبو بشار وهو رجل اربعيني وهو يشير لابنه ويمسك يديه وقد خلع عنه جميع ملابسه لكي يعرض صوره  للعالم، بينما الطفل النحيل يتململ ويحاول الإفلات من والده، “هل هذا يرضيك أيتها الإنسانية؟ هل يرضي الله؟” ويكرر تساؤله “هل يوجد انسانية حقا ؟ هل هذا الطفل ارهابي؟” ثم يعرض الوالد صورة للطفل بشار التقطت قبل عام مضى، يبدو فيها طفلاً صحيحاً يتمتع بالحيوية. يقول والد بشار “ماذا فعل؟ ما ذنبه؟ لقد حرمه بشار من التعليم واليوم يطرده من الحياة برمتها بعد ان جوعنا وجوعه”.

يقول مسؤول “المكتب الطبي في الغوطة الشرقية” الطبيب ماجد أبو علي أنه لا يوجد في بلدة جسرين اليوم سوى نقطة طبية فقيرة جدا، بعد دمار المشفى الوحيد جراء القصف. وهذه النقطة كجميع النقاط الطبية الأخرى في الغوطة تعاني من فقدان شبه تام لجميع الأدوية والإسعافات الأولية وخاصة مستلزمات العمليات والسيرومات، بحسب ما يشرح الطبيب للوضع الصحي ويضيف “معظم المرضى يقضون بسبب عدم تمكنهم من الحصول على الأدوية وخصوصا مرضى سوء التغذية وهم اليوم يشملون جميع الفئات (نساء أطفال رجال) ولكن الأعراض تظهر بداية على الأطفال بشكل خاص” .

يقول المتحدث باسم “المكتب الإعلامي لمدينة دوما” في الغوطة الشرقية الذي عرف عن نفسه باسم عمار الدوماني (20 عاماً) إن جميع محاولات كسر الحصار لانقاذ هؤلاء الملايين باءت بالفشل، فيما بقيت عيون الأهالي تترقب الأمل الوحيد لإنقاذ أطفالهم ورفع الحصار ومنع المزيد من التدهور والموت والجوع عنهم بتدخل وضغط المجتمع الدولي خلال مؤتمر “جنيف2” .

تنهد عمار بعد ذلك وقال “لم نلمس أي تغييرإيجابي في الوضع مهما كان بسيطاً عقب اسبوع من المفاوضات، وكأن الجميع تعاموا عن هذه المأساة والكارثة الانسانية المريعة”. وختم الدوماني قائلاً “لاتزال مواكب ضحايا الجوع تسير في طريقها دون التفاتة عالمية إلينا”.