الثلاثاء 24 أيار 2011

صبا بردا

قررت اليوم الاستمرار في تسجيل الأحداث التي أعيشها. فالتدوين اليومي مهم جداً في سوريا. فاليوم ثمة تاريخ يُصنع.

أصبح الأسبوع مكوناً من جزئين: أيام السبت والأحد والأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس تشكل جزءاً وتشكل الجمعة جزءاً آخر! فقط أولئك الذين عاشوا في سوريا ربيع 2011 يعلمون ذلك، يعلمون قيمة يوم الجمعة ومظاهرات يوم الجمعة وأين تذهب أو لا تذهب يوم الجمعة وماذا يمكنك أن تفعل وما لا تقدر أن تفعل يوم الجمعة، عدا عن اسم الجمعة. والله عليم كم سيطول الأمر. نحن الآن تقريباً على مشارف فصل الصيف من عام 2011. عندما أقول مشارف فذلك لأن أيار قدّم لنا شتاءً بارداً في الصيف لن يتمكن السوريون من نسيانه بسهولة. شهدت أيام الجمعة أمطاراً شديدة، في بعض الأحيان صحبها البرق والرعد أيضاً. نعم رعد وبرق في أيار! إمتدت عاصفة الإنتفاضة حتى شملت الطقس في سوريا! يبدو أن كل شيء هنا يكاد ينطق، حتى الأرض والسماء لم تعودا تستطيعان السيطرة على نفسيهما.

الأخبار الجيدة أن صديقي المعتقل بلال خرج من السجن وعاد لمزاولة حياته الاجتماعية العادية، إلا أنه من الواضح أنه قد عُذّب كثيراً. أستطيع أن أرى ذلك في كلامه ومن خلال عينيه اللتين لا تثبتان على شيء إطلاقاً حين يتكلم وردة فعله عندما يُسأل هل أنت بخير وما يكتبه يومياً على مدونته. أصبحت آثار الاعتقال مفهومة من قبلي ومن قبل أصدقائه الآخرين. نراه كل الوقت الآن، ما زال هنا، لا زال “يعصف” في الأيام الحارة تماما كأيار. لهجته الحادة في الكتابة لم تتغير ولم يتوقف عن نشاطه الثوري.

سمعت البارحة من صديقة وهي طالبة علم اجتماع شيئاً مثيراً جداً أدار رأسي دون مخدر. سمعت أن الثمن الذي دفعه الإنسان لكي يتكلم كان باهظاَ جداً. عندما تطور لدى الإنسان ما يسمى “بعلبة الصوت” التي مكنته من الكلام أصبح عرضة للموت اختناقاً في أي لحظة إن دخلت قطعة طعام خطأ في مجرى الهواء. أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان هو المقدرة على التعبير الكلامي. من الظاهر أننا عشنا معظم حياتنا كحيوانات إذاً. لا يتعلق الموضوع بإيجاد الطعام والمأوى بل تحديداً يتعلق بالكلام، بإنسانيتنا. كيف يمكن لأي شيء أن يحمل قيمة إن لم نفعله؟ّ إن لم نتكلم؟ هذا لا يعني أن ثمة عيب في الحيوانات، لا أبداً، انما من المُمرض أن أحيا حياة ليست لي، لا تشبهني. لست أنا! ويا الله كم أني مريضة حقاً! مرض حتى الموت. أن أتكلم هو أن أحيا!

لا يعرف “البقاء” أي تنازلات أو مساومات. لذلك قررنا، ليس كل السوريين، إنما جزء منهم، وأنا أكتب عني أنا وعن من حولي من الناس، أن “نبقى”، لكن بحذر شديد، بهدوء، نحاول أن نتوارى عن الأنظار. نعمل في سرية تامة وبحذر شديد حتى نستطيع أن نستمر. لا فائدة من القيام بتصرفات رعناء من أجل صنع بطولة لا قيمة لها و نحن نواجه عدواً شديد البطش.

علينا أن نضع خارطة للطريق لأنه من السهل أن نضيع وجهتنا في خضم المتاهة الحالية التي تغلب عليها استراتيجية الخوف، وهي الوحيدة التي نقدر عليها. أقصد أنه علينا أن نفكر بمرحلة ما بعد الثورة وبعد رحيل النظام. ماذا سنفعل؟ كيف ستدار البلاد؟ نتحرك الآن في جو من الخوف. لا تنطلق براحة مطلقة. لأن هذا هو المتاح. لا أريد أن أكون متهورة وأضيع كل شيء.

علي أن أتحمل “العلاك” اليومي أي الثرثرة غير المجدية، كمن يعلك اللبان فقط، يحرك فاهه. ليس لكلام هؤلاء الناس أية قيمة. أصفهم بالجهلة لأنهم يبنون آراءهم على ما يسمعون من إعلام النظام أو أهلهم وذويهم. لم يتكبد أحدهم عناء الخروج الى الشارع ليرى بنفسه حقيقة ما يجري ويكوّن رأياً مبنياً على أشياء رآها بأم عينه. أبذل جهدي لكي أتعاطف مع غبائهم محاولة جاهدة أن لا أقع في فخ الكراهية. في اليوم التالي أجدني لا أقوى إلا على أن أمقتهم ليس لشخصهم بالذات وإنما للأسلوب الذي يعاملون به أغلى هدية منت عليهم، إنسانيتهم، القدرة على الكلام.

أشعر باللاهوت الأعلى يقتحمني عندما أصلي إلى من وجد قلبي، راجية الله أن تقع معجزة لم أكن أتوقعها أو أنتظرها إطلاقاً. أشعر بالعجز وأتساءل هل تحولت بالفعل إلى خضار، خضار لا تتكلم ولا تتحرك، وهو مصطلح يُنعت به المرء عندما يصل الى اقصى درجات الضعف و قلة الحيلة. تنتابني هذه الحالة حتى دون أن أتعرض لمرض خبيث! لم يعد ذلك يهم. إلهي إجعلهم يرحلون، يسقطون ويرحلون. فليسقطوا! آمين!

حرستا/دمشق