البحر وخلفه إبني
فجر 4 آب/أغسطس 2015، اتصل بي إبني فرحاً. أخبرني أنه وصل اليونان أخيراً بعد رحلة عناءٍ ومشقةٍ. توقف عن العمل محرّك القارب الذي استقله ورفاقه لعبور البحر، ما اضطرهم للتجذيف، مع خوفهم ورعبهم الشديدين أن يصبحوا طعام إفطارٍ شهي لأسماك القرش التي اعتادت اللحم السوري كغذاء لها. أخذت المياه تتسرّب إلى القارب حينها أخذوا برمي حقائبهم الصغيرة في البحر وخلع قمصانهم لتجفيف المياه. لقد ولدوا من جديد.
وبكيت فرحاً بوصوله سالماً، وحزناً لأنه سيبدأ حياته هناك، في تلك البلاد البعيدة الغريبة، ليبني مستقبله ومستقبل أبنائه.
في 30 تموز/يوليو 2015، كنت قد ودّعته، كان بودّي لو يودّعني صفو الحياة ولا أودّعه. كانت لحظات الوداع قاسية مؤلمة. استودعته الله الذي لا تضيع عنده الودائع.
اسماعيل ذاك اليافع الذي لم يبلغ الثامنة عشر بعد، ذهب وأخذ روحي وقلبي معه. إنما أشكو حزني إلى الله. هكذا أصبح حالنا، كل يوم وداع على أمل اللقاء بظروف أفضل.
في بداية الثورة كان يهرب من المدرسة ويلتحق بصفوف المتظاهرين. كان في الصف الثامن من المتفوقين دراسياً، كنا نخاف عليه كثيراً، نحاول أن نمنعه، ولكنه في غفلة منّا كان يخرج ليتظاهر. إلى أن جاء اليوم الذي اعتقل فيه، وعلى أثر ذلك خرجنا من إدلب. كان يرفض وبشدّة فكرة السفر إلى تركيا. كان يريد أن يبقى في الريف المحرّر، يشارك الثوار في أي شيء يستطيعه. نتيجة لإصرارنا التحق بالمدرسة ولم يستطع المتابعة. “أي متابعة تلك وليس هناك من جامعة تقبلنا، وما الفائدة من الشهادة الثانوية إن لم يكن معترفاً بها؟” بهذه التعليقات والتساؤلات كان يجيبنا دائماً.
أخيراً قرّر السفر مع رفاقه إلى أوروبا، لم يبق من خيار آخر أمامهم، ليس من بديل. نحسد أوروبا، شبابنا بجبروته وقوته وذكائه أصبح عاملاً منتجا عندها. فتحت لنا أبواب الهجرة لتسرقهم منا. وما أحوج سوريتنا لهؤلاء الشباب ليبنوها مجدداً، بعد أن عاث بها خراباً ودمارا حاكم مجنون ظالم، لا بارك الله به ولا بأمثاله.
ماذا بقي لنا؟ لم يبق إلّا الحسرة والألم وكارثة ألمّت بنا، ففرّقت جمعنا وشتّتت شملنا.
وما إن انتشر خبر وصوله اليونان سالماً حتى أخذت الاتصالات تأتيني من هنا وهناك. صديقاتي، جاراتي، معارفي، يسألون عن الطريقة التي سافر بها، عن تكلفتها المادية، عن المهربين، عن الطريق، عن الطقس، عن تفاصيل صغيرة ودقيقة لا أعرفها… هذه تريد أن ترسل أبناءها، وتلك سترسل زوجها، وإحداهن ستسافر مع ابنتها وابنها. يسألون ويسألون والخوف يملأ جوارحهن من رحلة، الغرق فيها بحراً يمكن أن يكون أول نتائجها… فوّضنا أمرنا الى الله…
لن أتحدث عمّا ألمّ بنا من حالة اكتئاب ومرض أنا وأخيه أخيه الأصغر منذ أن خرج من المنزل. حالات الاكتئاب التي كنت أتغلّب عليها في أقسى ظروف مرت عليّ، ها هي الآن تتملك منّي، وتحيلني امرأة ضعيفة لاحول لها ولا قوة.
في 9 آب/أغسطس 2015، ما زال اسماعيل يتسكع مع رفاقه في تلك الجزيرة اليونانية التي وصلوا اليها، بانتظار ورقة الطرد ليبدؤوا مشقة رحلة جديدة يعلم الله ماذا ستحمل لهم من مفاجاَت، للوصول إلى هدفهم المرجو. الأيام الخمس التي قضوها في هذه جزيرة كيوس السياحية في موسم الصيف، استنفذت منهم أموالاً كثيرة. تسعيرة أرخص الفنادق نحو 120 يورو لليلة الواحدة، وأبط وجبة طعام كلفتها نحو 10 يورو.
كثرة المهاجرين كانت السبب في تأخّر وصول ورقة الطرد المنتظرة. السوريون المتواجدون ناك أعدادهم لا تحصى، وهم في تزايد مستمر، والكل ينتظر دوره. منهم من افترش الحدائق، ومنهم من نام في مواقف الباصات، ومنهم، ومنهم، ونحن ما زلنا ننتظر الفرج، وننتظر.
اللهم ألهمنا الصبر…
كفاح قباني (48 عاماً) من مدينة إدلب، أم لثلاثة أبناء وجدّة لطفلة، نشطت منذ بداية الحراك المدني عبر التظاهرات والطبخ للثوار ومساعدتهم، إضافة لتحميل أفلام المظاهرات المصورة ونشرها مشاركتها عبر شبكة الأنترنت. اعتقلت قوات النظم ابنها الأكبر الذي تعرّض لتعذيب شديد. تعيش كفاح قباني حالياً في جنوب تركيا مع عائلتها.