الانقراض السوري
“ملامح وإشارات”
عمل ممنهج قضى على الفردية لحساب الرقم والظلّ، كما إستطاع وببسالة القضاء على مبادرة أي مفكر أو عالم إجتماع أو قرّاء غيب ومنجمين لفهم أو لمحاولة إدعاء فهم ما لهذه التركيبة العجائبية الماقبل مجتمعية. لذلك سأكتفي بإشارات لا تلتفت إلى التنظير والأكاديميات واليقينيات الناجزة.
فمن إنهيار اليقين الذي ساد نهاية الثمانينات عن الطبقات وتشكلها، وعن حجم الدور المنوط بالطبقة الوسطى الموكول إليها مهمات التغيير والتي كانت الحامل الأساس لاحتمال إستمرار مجتمع أهلي مدني ساد الخمسينات، وبدأت دعاماته تتداعى وتنهار في الستينات بعد العديد من الإنقلابات، ثم سقوط المجتمع في قبضة حزب لا يرى في التغيير إلى إستبدال سلطة بأخرى لا أفق لطموحاتها الشخصية والتي أُسقط من حساباتها كل ما يتعلق بالوطن والمواطنة.
رأس مال غريب مريب إلى جيوب وأوسمة العسكر فاصطلحنا راكنين إلى ما أسميناه “النوفوريش” أو الأثرياء الجدد والذين كلما ازدادت هزائم الوطن والمجتمع تضاعفت أرصدتهم وأوسمتهم طرداً وعلى طريقة الرياضيات التي يدركون ويعرفون منها أرقام ما يجنون وحجم رصيد العائلة الجديد. وهذا الإنقراض للطبقة الوسطى تناغم مع إنقراضات هائلة للمثقف ودوره. فمثلاً طباعة انطولوجيا عن الشعر في سوريا تتجرأ وترصد الشعراء و كأنهم من ضيعة واحدة.
وهذا التحول والتغير في مفهوم المثقف ودوره تزامن مع تغير طابع المدينة السورية. فبدأ العمل الجاد في محو وإزالة كل ما يمت إلى الذاكرة السورية بصلة، إلى أن حصل إنقراض لكل ما يمت إلى الحياة المدنية والتعددية والمجتمعية. فلم تعد ثمة مقاهٍ في دمشق غير مقاهي الفروع الأمنية والفنادق الجديدة الباذخة ذات النجوم المتعددة المشارب والأموال. وغاب مقهى “الديرية”، نسبة إلى رواده من دير الزور في شارع 29 أيار، كما انقرضت كل المطاعم وحانات الطبقة الوسطى والمثقفين من “النجمة” إلى “مجدولين” إلى “اللاتيرنا” إلى مطعم “الريّس” التاريخي في ساحة المحافظة، في قلب دمشق، والذي إشتهر بضمه تاريخياً لأسماء لا تحصى ممن أسسوا لحياة ثقافية، ومنهم الكثير ممّن حالفهم الحظ وماتوا، قبل أن يموت غيرهم كمداً على فقدان ذاكرته وملامحه وأوهامه.
وهناك حانة “الفريدي” التي ضمت الأرستقراطي والشاعر والسياسي والعتال وكل العرب الذين درسوا أو عبروا دمشق. وكل ذلك في تناغم ومزاج يحتفي بالحياة والنبض، وينأى عن عسكر و”مندسين” مارقين وخجلين في محاولاتهم الإنضمام إلى فيالق التحالف الغريب – المريب الذي بدأ يطغى على الحياة ومفرداتها ولكنتها الجديدة. ولن ننسى شارع “شيكاغو” القريب من مقهى “الهافانا” والذي انقرضت فيه مجموعة أماكن وحانات وتحول لمكاتب سياحية، وحانة “الموعد” التي إقتناها عنوة أحد الفنادق الفخمة وضمها إلى مزرعته.
وانقرضت معظم المكتبات التي غذت وربت البلاد والعباد بكتب وهواجس وحراك وندوات وأضحت محلات بوظة وألبسة. والمسرح تحول إلى نسخة هزيلة عن أي تمثيلية تلفزيونية وهرب منه المخرج والممثل والجمهور. انقرضت القبلة “البوسة” – كما يقول راشد عيسى مرة – وهرب كل الجسد من السينما وتحلّل قطاعها الخاص.
إن ما يستتبع خطط محو وإزالة الذاكرة الخمسية والعشرية يتوضح في تحويل المدينة القديمة – وهذا ما ينطبق على حلب أيضاً – إلى مطبخ من طراز غيبوبي (مدينة = مطبخ) وبنجوم متلألئة متعددة من مطعم إلى فندق إلى آخر لا إسم له حتى صرنا بلا ذاكرة جغرافية، شجعنا السياحة وأعدمنا الذاكرة. شهدنا أيضاً انقراض تلك اللغة، اللهجة الشامية مثلاً الخاصة المفخمة المحببة وإلغاء مفهوم وشخصية “القبضاي” ورمزيتها من كل شارع وحي قديم وإستبدالها بوجوه متجهمة ذات ورك معدني وبدلة سوداء بدل العكاز والعرقية، الوشاح الذي يلف به الرأس مع اللباس التقليدي من مئزر أو شروال. وصار المختار التابع لإدارة أمنية محلية مخبراً بدل ذاك “القبضاي” الوسيط الذي يتميز بالحكمة والصرامة وإدارة شؤون حيّة بضمير وشريعة مقبولة من كل عائلات الحي لشهامته وثقتهم بتجربته ونزاهته. لكن ومع الغسيل المتواصل للعقول والأموال أعطته الثقافة والدراما الجديدة تحديداً دوراً ريادياً في كل المسلسلات التي تحتفي بانقراضه العملي وحضوره الافتراضي الآن. وعلى صهوة المسلسلات وإنتاجها الضخم بدأ “القبضاي الزعيم” بدور ريادي في حل كل الأزمات العالقة، من التوسط بين المخفر والدرك والمطلوبين إلى تنظيم الحراك لإسترجاع الحقوق من المغتصبين العثمانيين والفرنسيين.
وانقرض نهر بردى وجفّت ضروعه، ولم يعد بإمكان سكان الحيّ الدمشقي مدّه وتغذيته بمياه ودماء جديدة، وهذا رمز أصيل للخراب. فانكفأوا في رحلاتهم “سيرانهم” نحو حدائق مجدولة من أسماء جديدة ينتجها لهم كل متعهدي السيرك السوري. واختفت كل صالونات ومجالس الثقافة والفن والأدب التي كانت رائجة أيام مجتمع أهلي – مدني، بات كسيحاً في ذاكرة نحيلة مريضة أو أيام ربيع دمشقي أفضى إلى سنوات عجاف. والأنكى حول انقراض المثقف هو حلول الممثل التلفزيوني محله بإسم علوم شتى من الإجتماع إلى السياسة والفلسفة إلى الأخلاق إلى السحر والشعوذة.
* ملحق :
لا أستطيع في تقديمي الشارات السابقة إلى تجاهل شارة وملمح طازج وهو ما حصل في العيد الماضي. فقد غاب عنه من ألعاب تقليدية كثيرة كنا عايشناها أطفالاً، كخيال الظل وسينما الدكاكين والعربات “الطنابر”. كانت كل الأعياد معروفة بألعاب نارية “الفلين زمانا” ومسدسات الأطفال المزيفة. أما هذا العيد فلم يخل زقاق دمشقي من عناصر وكوادر أطفال أصحاب مزاج وهوس غريب مريب وقد تمترس كل فريق أو جماعة بأنواع لا تحصى من الأسلحة، ولا أدرك أسماءها، وهي أسلحة بلاستيكية، مزيفة، وكان الصراخ يعلو وهم يقومون بكرٍّ وفرٍّ على الأحياء والبيوت القريبة. وكنت أسمع أحد الأطفال يقول: “حاصروهم اضربوهم مندسّين!” ثم آخر يقول لأبيه صارخاً: “أعطني المسدس فالبومباكشن صارت بدون رصاص وذخيرة وهاجمين علينا”. فكان الأب يلبي ويحذر إبنه، جاداً أو مازحاً أن يتنبه للأعداء.
واستمرت أيام العيد دون هدنة أو استرخاء. وكنت زرت أمكنة، غير دمشق، لأرى أن الحرب قائمة هناك أيضاً! ولم أدرك كيف سيفعلون بعد العطلة والعيد السعيد. هل يتحاورون ويأكلون البوظة معاً؟ أم أنهم سيلعبون “العسكر والحرامية ” و”الطميمة “التخباية” أم ألعاب الكرة والقدم؟ وأقصد ألعاب زمان. أم أن الحرب قد توقفت؟ أم أن الأطفال قد تشوهت مصاريفهم “خرجية العيد” وتخربت أسلحتهم وصاروا دون ذخيرة ورصيد؟ سوى حكايا الحرب والعيد أم أنهم سيعدون خنادقهم من جديد ويستوردون أسلحة بانتظار عيد جديد؟