الاختفاء القسري: فصل يتجدد في المأساة السورية

يوسف كنعان

كحال أيّ بلد تعصف به الفوضى والحرب الأهلية، باتت سوريا اليوم مسرحاً لمختلف أشكال انتهاكات حقوق الإنسان، والاختفاء القسري أحدها. ليس الأمر جديداً، فقد عانى منه آلاف السوريين، خصوصاً خلال الأعوام الأولى من ثمانينات القرن الماضي، أيّام الصراع الدامي بين نظام البعث، وجماعة الإخوان المسلمين، والذي لم يسلم أي صوت معارض للنظام من تبعاته. اللافت اليوم أنّ الاختفاء القسري يشمل أعداداً متزايدة من السوريين، ذلك أنّ مصدر هذا الخطر لم يعد مقتصراً على النظام كما في السابق وإنّما باتت له مصادر متعدّدة، بتعدّد أطراف النزاع الدّائر اليوم.

“إتصل شاب كنّا قد قدمنا له مساعدة إغاثية، وبذريعة حاجته الماسة إلينا، حدّدنا موعداً في أحد شوارع دمشق الرئيسية. وهناك لم يكن في انتظارنا وحسب بل كان معه ثمانية أشخاص مسلّحين. لحظات وكانت البنادق مصوبة إلى رأسي ورأس صديقي. قاموا بتكبيله مباشرة وعصبوا عينيه ولم يقوموا بتكبيل يدي أو عصب عينيّ. رأيتهم يضعونه في إحدى سياراتهم ووضعوني في سيارة أخرى. سألتهم: من أنتم، لماذا خطفتمونا؟ جاوبني أـحدهم: لاتخافي نحن الأمن. حينها شعرت بالخوف وصمتّّ.”

ملصق لأحد المفقودين في سوريا – منظمة العفو الدولية

بهذه العبارات روت كندة (إسم مستعار) كيفية اختطافها وصديقها من قبل أحد فروع المخابرات السوريّة، على خلفيّة نشاطهما في إغاثة المتضررين من أعمال العنف التي تشهدها المناطق المنتفضة.

تؤكّد منظمة أفاز المختصة بحقوق الإنسان، في تقرير نشرته على موقعها على الإنترنت، أنّ أكثر من 28 ألف شخص اختفوا في سوريا بعدما تعرضوا للاختطاف من قبل القوات السورية أو المليشيات. إذ يذكر التقرير أن المنظمة لديها أسماء 18 ألف مفقود منذ اندلاع المظاهرات المعارضة لنظام الأسد، وأنها تعلم أن هناك عشرة آلاف مفقود آخرين حتى تشرين الأول/أكتوبر 2012.

لم يكفّ النظام عن هذه الممارسة منذ بدء المظاهرات المناهضة له قبل نحو عشرين شهراً. ذلك أنّ أجهزته الأمنيّة تقوم بالاعتقال خارج إطار القانون. لاحقاً، بعد انتهاء فترة التحقيق، التي ينال فيها المعتقل نصيباً وافراً من التعذيب والإهانة، قد يُحال إلى القضاء بتهمة ما، الأمر الذي يتيح لذويه معرفة مصيره والتأكد من سلامته. لكنّ الحالات الأخطر هي التي يجهل فيها ذوو المعتقل مكان وجوده، أو الجهة التي احتجزته، والمصير الذي ينتظره، لمدّة لا يمكن التكهّن بها.

 “إستمر الاعتقال أياماً وما من أحد يعرف مكاني،” تقول كندة.

ويبدو أنّ الحظ حالف كندة، فلم يستمر اختفاؤها سوى تلك الفترة القصيرة، خلافاً للآلاف الذين لا يُعرف شيء عن مصيرهم، ليس فقط خلال الأزمة الحاليّة بل يعود اختفاء بعضهم إلى عقود مضت.

لم تكن كندة هي المقصودة من ذلك الاعتقال، فلم تتعرّض للمضايقات داخل الفرع. لكنّها خلال التحقيق، كانت تسمع من الغرفة المجاورة صوت صديقها وهو يتعرض للتعذيب.وما زال صديقها موقوفاً دون أن يحال إلى القضاء حتّى اللحظة.

“عندما خرجت فوجئت بكمّ القصص حول اختفائنا أنا وصديقي. كان كل من نعرفهم مستنفرين لمعرفة مصيرنا،” تقول كندة. “لو لم أخرج لما علم أحد بوجودنا في ذلك الفرع، ولبقي مصيرنا مجهولاً، والاحتمالات كثيرة.”

في الطرف الآخر من سوريا، تعرّض أحد سكّان حي الأشرفيّة في مدينة حلب للاختطاف بطريقة مشابهة، ولكن على يد إحدى مجموعات المعارضة المسلّحة. يقول وائل (إسم مستعار): “ركبتُ سيارتي أمام المنزل. فجأة ظهرت سيارة مغلقة نوع فان وقطعت الطريق علي، ونزل منها نحو عشرة مسلحين يرتدون لباساً عسكريّاً، قاموا بالهجوم علي وإجباري على ركوب آليتهم. وعندما قاومتهم انهالوا علي بالضرب، وبدؤوا بإطلاق النار في الهواء.”

ويضيف: “قام أحدهم بضربي على وجهي بأخمص البندقيّة. فقدتُ توازني فدفعوني داخل السيارة، وبدؤوا بالتكبير فوق رأسي وأنا ممدد على الأرض”. بدأت بعد ذلك رحلة اختفاء قسري، لم يتمكنّ حتى الآن لا وائل ولا أسرته من التعافي من نتائجها.

يروي وائل بعض فصول معاناته: “وضعوا القيود في يديّ وقطعة قماش على عينيّ كي لا أرى وجوههم، وعند المرور بحواجز المسلّحين كان الخاطفون يقولون (تعالوا شوفوا هالخروف أو هالشبيح جبناه من الأشرفية) فيصعد المسلحون إلى السيارة ويركلوني على كل أنحاء جسدي، وهكذا حتّى وصلنا مكاناً أجهله بعد نصف ساعة.”

بالنظر إلى قصّة وائل، يبدو أنّ التحقيق والتعذيب لدى مسلحي المعارضة لا يختلف عنه عند أجهزة النظام. يقول: “أول سؤال وجِّه لي كان عن انتمائي الطائفي، فأنكرته وادّعيت أنّي منهم فلم يصدّقوني وبدؤوا بتعذيبي وضربي بالعصا والكرباج ثم أخذوني إلى الحمام حيث وضعوني داخل مغطس مملوء بالمياه وقاموا بكهربة المياه وصعقي عدّة مرّات.”

تحت التعذيب اعترف وائل بانتمائه الطائفي وبأنّ لديه أخاً في الجيش.

“وسألوني عن العائلات التي تؤيد النظام التي تسكن في الأشرفية فقلت إن جميعهم رحلوا من الحي، وإنني لست طائفيّاً وزوجتي سنية مثلهم، فلم يقتنعوا بذلك،” يضيف وائل.

بعد ثلاثة أيام من التحقيق والتعذيب، قال له الخاطفون، “سألنا عنك، لست متورطاً ولم تعمل مع الشبيحة لذلك عقوبتك هي دفع مبلغ ثلاثة ملايين ليرة سورية من أجل التبرع للثورة لأن الذي يساعد الدولة منكم عقوبته الذبح أما البريء فيدفع هذا المبلغ،” يقول وائل.

وبالفعل بدأت المفاوضات مع أهله حتى وصل المبلغ إلى النصف، إضافةً إلى سيارته التي كان الخاطفون أخذوها عند اختطافه.

“تم الاتفاق في اليوم السادس على تسليم المبلغ لهم وبعدها بساعة يطلقون سراحي.” ويضيف وائل، “قام أهلي بإرسال المبلغ إلى المكان المحدد مع أحد أصدقائي، لكن الخاطفين بعد استلام المبلغ أخذوا الشاب وعذبوه وأهانوه لأكثر من خمس ساعات بتهمة أنه شبيح، قبل أن يطلقوا سراحه. ثم أرسلوني إلى مستودع تحت الأرض. يوميّاً كنت أسمع صوت من يعذبونهم يأتي من مكان قريب.”

لاحقاً، تبيّن لوائل أنّه بعدما قبض الخاطفون المبلغ المتفق عليه ولم يُطلقوا سراحه، قام أهله باختطاف عدد من أبناء المنطقة التي كان محتجزاً فيها، مما أدّى لإجراء مفاوضات أدت إلى إطلاق سراحه.

رغم إصرار كلٍّ من طرفي النزاع في سوريا على عدالة المعركة التي يخوضها، واتّهام الآخر بممارسة انتهاكات حقوق الإنسان، إلاّ أنّ ما جرى مع كندة أو وائل، وغيرهم الكثيرين، يشير إلى تقاسم الطرفين المسؤولية عن انتهاكات يدفع ثمنها الإنسان السوري، الذي يزعم كلاهما تمثيله والدفاع عنه.