الإعتصام النسائي الأول في إدلب
كانت مدينتي الحبيبة من أولى المدن التي رفضت حكم بشار الأسد. كان الجيش الحر قد سيطر على عدة مناطق في المدينة. المظاهرات كانت تصول وتجول في شوارع المدينة من دون أن يجرؤ أي عنصر من عناصر النظام على الاقتراب منها. نحن، كنا عدة نسوة نتبعهم نمشي وراءهم، نحمل السكاكر بيد وزجاجات الماء باليد الأخرى. كانت حناجرهم تصدح بالهتافات والتكبير دونما خوف ودونما جزع. يا لها من أيام، أيام ثورتنا الاولى بصدقها وعفويتها وحماسها. أين أولئك الشجعان الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ؟ رحمهم الله أكثرهم نال شرف الشهادة.
22 نيسان/أبريل 2011، مدينة إدلب شارع القصور، أمام جامع الروضة، بعد صلاة العشاء، هناك مظاهرة نسائية.
هكذا بدأت القصة. هي المظاهرة الأولى، كان عليّ أن أدعوَ 50 امرأة. كان يجب أن أذهب إلى بيوتهنَّ، لأن كافة وسائل الاتصال مراقبة. بدأت عند الصباح من منزل لآخر، في وجوههن أرى الحماس، وأقرأ المفاجأة والدهشة وأُصدَم بالرفض. معظمهن موظفات، الخوف على مصيرهن بعد المظاهرة كان يدفعهن للرفض.
في الموعد المحدد خرجنا. وقفنا نعبر عن رفضنا لما يحدث. هتفنا لتحرير المعتقلين ورفع الظلم. كان هناك فتيات صغار حملنَ لافتات كُتِبَ عليها : “أريد أبي، أريد أخي ….”
فوجئنا بالعدد الهائل “للشبيحات” (تسمية تطلق على المؤيدين للنظام) اللواتي سبقننا إلى المكان. كانت أصوات الأغاني التشبيحية تصدح من سياراتهنَّ، وكان عددهن يتجاوز عدد المتظاهرات. مازالت صورتهن أمامي وهنّ ينصحننا، بأن كل ما نريده سيتحقق ولا داعي لما نفعل . ومع إصرارنا على الوقوف، أخذنَ يُكلنَ لنا الشتائم والتهديدات لم نبالِ بهن كنّا الاقوى. عدنا وتهديداتهن ترافقنا الى بيوتنا.
كانت ليلة عصيبة، إحدى الشبيحات هددتني بابني الذي كان يصور التظاهرة. حينها لم آبه لها، ولكن ما إن دخلت المنزل أحسست بالخوف وبالرعب. إن غفوت أرى امامي كوابيس مزعجة. يتهيأ لي أن الباب يُقرَع وسيأتي أولئك الاوغاد ليأخذوني مع ابني. كنت أقرأ القرآن، واتظاهر بالقوة. ألوم نفسي أحيانا وافخر بها أحيانا اخرى. ولكنني تحديتُ الجميع وخرجت.
في اليوم الثاني كانت ردات فعل صديقاتي متباينة، منهنَّ من قبلتني وشكرتني وبكت لأنها لم تكن معنا. ومنهنّ من لامتني كثيراً، ومنهن من استنكرت فعلتي. بعد تلك المظاهرة تشجع الكثيرون للخروج. بتنا نخرج خلف الرجال في مظاهراتهم، كان عددنا قليل وأخذ يزداد حينآ بعد حين. كم أحنّ لتلك الأيام.
بقينا على تلك الحال الى أن دخلت وحدات تابعة لجيش النظام مدينتنا، فدنستها وعاثت فيها فساداً وخراباً.
بعد عدة أيام اعتقلوا ابني. كنتُ معهُ ولكن أخذوه مني. انهم أشرار خفتُ إن تكلمت أن أُؤذيه. لم تنفع أي محاولات لزوجي معهم بالعدول عن قرارهم. أخذوهُ وعدنا للبيت من دونه، حينها بدأت معاناتي الحقيقية مع العذاب، مع القهر.
كتبت في مذكراتي في اليوم الثالث عشر لاعتقال ابني ابراهيم : هذا هو شعورُ القهر الذي لم أشعر به في حياتي. أصبحت في سن الخامسة والأربعين ولم أكن قد عرفت قبلاً هذا الكم الهائل من القهر، الآن أشعر به يطبق على صدري، على قلبي على حياتي لم أبكِ في حياتي كما أبكي الآن. دموعي حارة تحرقني، يبدو على قدر الألم الدموع تزداد ملوحتها، احسّها تحفر على وجهي. يارب هل يمكن أن اموت قبل أن اراه . أتألم لأجله أحس بأنني أنا التي أتعرض للضرب، انا التي أُهان، قلبي يبكي قلبي ينزف. كم أشعر بالعذاب يا ابراهيم، أنا التي سلمتك بيدي. أنا التي أصرّيت على عودتك. لكن لي عذري. إشتقت إليك، اشتقت لوجودك في المنزل. اشتقت لفوضويتك لأغراضك التي كانت تملأ الامكنة، اشتقت لوجودك. مللت من سؤال إخوتك متى يعود ابراهيم؟ جدتك التي خرجت إلى الشارع تودعك كانت تسألني عنك وتبكي. لو كنت تراها يا ابراهيم الآن، ماذا فعل بها اعتقالك، لقد هدّها، وأخيراً ها هي تصوم عن الكلام ثلاثة أيام علَّ الله يعجّل بالفرج، يا رب أرجوك يا رب أتوسل إليك يا رب ليس لي غلّا أنت ألجأ إليك، أريد إبراهيم يا الله اريد الصبر يا الله.
كفاح قباني (48 عاماً) من مدينة إدلب، أم لثلاثة أبناء وجدّة لطفلة، نشطت منذ بداية الحراك المدني عبر التظاهرات والطبخ للثوار ومساعدتهم، إضافة لتحميل أفلام المظاهرات المصورة ونشرها مشاركتها عبر شبكة الأنترنت. اعتقلت قوات النظم ابنها الأكبر الذي تعرّض لتعذيب شديد. تعيش كفاح قباني حالياً في جنوب تركيا مع عائلتها.