الأربعاء 12 تشرين الأول/أكتوبر 2011

صبا بردا

تلقيت الخبر كالصفعة على وجهي. أول مرة أعرف أنّ الكلام المؤلم حقيقة وليس مجازاً. قُبض عليهم في غفلة منهم كأنهم مجرمون اقترفوا جريمة شنعاء. تحدثوا، تنفسوا، بكوا، تألموا، فتأوهوا. هذه هي جريمتهم التي لا تُغتفر، أصدقائي مازن وعامر وعلا وبيسان. بعد ذلك اعتقل صديقي مراد أيضاً. قضى عشرة أيام في السجن ورأيته بعد خروجه.

وجه كالقمر يضيء لك الطريق حتى الأفق البعيد. طلّ من الباب فعانقته بشدة كأني أريد أن يصبّ بين ضلوعي جُلّ ألمه ويطيب شيء منه. كم انتظرنا وكم بكينا وكم قلقنا وكم لازمتنا الكوابيس في الليل والنهار. وكم حبسنا الدموع ونحن نراقب أمه تذوب وترفض أن تبكي وتشتكي.

ثمة دوائر داكنة شديدة السواد حول عينيه التي لا تنقطع منها ينابيع الحياة تشبه تلك التي يضعها ماكيير فاشل في فيلم أفشل منه على وجه ممثل – أجل كانت الدوائر فظيعة تكاد تظنها ألواناً صناعية. وهناك أيضاً آثار قطب حديثة العهد فوق عينه. يشع الجمال ألقاً من خلف تشوهات الضرب المبرح الواضحة. ظل يصطدم بأحجار السلالم الطويلة المدببة الحفة حتى زج به في سيارة أشبه ما تكون بعلبة كبيرة تملؤها الوحوش الآدمية العطشى للدم. كانوا يلبسون ثياباً مدنية ولم ينسوا أي شتيمة للأم والأخت والرب إلا وانهالوا بها عليه. فنحن العرب دائماً ننبغ في السب والشتائم حتى أننا عندما نلتقي بأجنبي أو بأجنبية تكون أول ما نعلمهم من الكلمات العربية أقبحها! كان يحكي وضحكته تجلجل. لم أقوَ على حبس دموعي. لقاء بعد اختفاء أكثر من أسبوع ولانعرف أين هو. يدير وجهه نحو أحد أفراد الحضور الذي كان يستمع للقصة والدموع تملؤ وجهه فتتراءى ندبة سوداء في رقبته. أنا متأكدة من أنه تم تثبيت الشريط الكهربائي في هذا المكان من رقبته لتعذيبه بالصعق الكهربائي. لم يتحدث عن هذا الأمر ولم أساله. ولم يقدر على أن يسأله أحد. والله فقط يعلم ما لم يقله. تسلوا بإطفاء سجائر غضبهم وعجزهم في جسده النابض بالرقة والقوة معاً. هكذا يفعل العاجز. يحطم كل شيء وأي شيء. وتذكرت كلام صديقي سالم لما قال: “كانوا جاهزين لقمع الجموع وعلى أتم استعداد. لكن المفارقة المضحكة نوعاً ما أنهم عندما كان الثوار يصرخون “الله اكبر” كانت تتهاوى قلوب الشبيحة رعباً.” سألته: “ولكن لماذا؟ لماذا يفزع من يحمل السلاح ممن يحمل غصون الزيتون والغار؟” قال لي :”لأنه سبحان الله صاحب الحق سلطان!”

بالطبع لم أنسَ أن أخبر أمي على الهاتف وأزف لها خبر عودته. فقد قضت أيام غيابه تبتلع الحبوب المهدئة كأنها سكاكر؛ أمي الحنون التي لا يقوى قلبها على هكذا ألم ولا تستوعب كيف من الممكن أن يتعرض أحد لمثل هذا الوجع. كيف يقتحم الشبيحة بيت شاب ويُجرجر على الأدراج ويصطدم رأسه بالجدران يمنة ويسرة حتى وصل الى “الفرع” برفقة الشبيحة. أشفق عليه رجال الأمن من هول ما رأوا من تعذيب ظاهر على جسده ووجهه وقالوا: “لك شو عاملين فيك؟ الله يكسر إديهن.” ضحك كثيراً عندما أخبرنا هذا التفصيل وضحكنا نحن أيضاً. ضحكنا ضحكات مبللة بالدموع.

كان صديقي الجميل يسكت تارة ويحكي تارة أخرى؛ ينظر نحو حبيبته التي كان يفتقدها طويلاً خلال فترة السجن بينما جلست هي على أبعد كرسي عنه. جلست أراقبه وأحفظ صوته وسكناته وحركاته وشكل السيجارة في يده وهو يشرح ويتحدث ويلوح بها كعادته. ومع كل هذا الألم الذي كان يندفع منه كالصراخ لم تنفك حبيبته تجادله حتى في تلك اللحظات الدقيقة التي لاتسمح لأي أنثى إلا أن تستكينَ وتسمع فقط؛ أن تكون كياناً دافئاً بلا شروط ولاآراء ولا حدود. عندما ترى حبيبك في مثل هذه الحالة لا يكون الوقت مناسباً للجدال والسجال، أليس كذلك؟ أشفقت عليه لأنني شعرت أن حبيبته غير مشفقة على حاله ولاتتصرف بشكل مناسب للحالة التي كان عليها. لم ينبس ببنت شفة، فقد اعتاد ذلك الصقيع في علاقة الحب هذه على ما يبدو.

بدأ أحدهم بسؤاله عن أمور صعبة وكنت قد نبهتهم جميعاً أن لا يسألوا عن شيء من هذا القبيل. فثمة أسئلة تصيب الفؤاد أشد من الرصاص، مثل أسئلة عن التحرش الجنسي مثلاً أو الإذلال. إلا أنّ نهمه فينا وفي الكلام والعيش كمن أتى من المجهول دفعنا لأن نستزيد. سألته شيئاً وحيداً: “كيف حاسس؟ كيف نفسيتك؟” أجاب سريعاً: “وحياتك جوا الحبس كنت أقوى من برا. كنا نعمل مظاهرات ونسب ونحكي يلّي بدنا ياه وحتى نتفق شو بدنا نعمل لما نطلع.” قال بلهجته المميزة التي لا أريد أن أذكرها. أخبرني عن محمد الذي خرج على قناة “الدنيا”، الصبي الفتي البهي الوجه الذي ظهر على الشاشة ليخبر العالم بعينيه البريئتين أنه “إرهابي” وقد “غُرر به.” تذكرته على الفور، فلايستطيع أحد أن ينسى منظر طفل في السادسة عشرة أو السابعة عشرة وهو يقدم اعترافات أمام كاميرا مصوبة كالبندقية نحوه. وُعد محمد بأن يُرد سالماً غانماً إلى أهله إن ظهر على “الدنيا”. وخرج الولد من حبسه ولكنه لم يصل أبداً إلى بيت عائلته وغاب حيث لا يعلم أحد. إلتقى صديقي أبا الطفل في المعتقل الذي دخله باحثاً عن ولده بعدما ضاق ذرعاً من البحث والسؤال والإنتظار في الخارج. إنتهى به الأمر أيضاً في حبس ولكن كان الولد قد اختفى.

لن أنسى هذا اليوم ما حييت، وما أكثر الأيام التي لن أنساها. أصبحَت عمراً مستقلاً أعيشه بكل تفاصيله وأحلامه وآلامه وأستمر في العيش.

دمشق