اغتيال الطفولة
تركت مدينتي دوما وانتقلت مع عائلتي إلى مزرعة كنا نملكها في منطقة الشيفونية. وكان ذلك في نهاية شهر آذار من عام 2015. بعدما تعرّض منزلنا للقصف أكثر من مرة وحصول مجازر عديدة في دوما التي كنت أزورها بين الحين والآخر، لأطمئن على من تبقى من عائلتي فيها. وفي كل مرة تتغير ملامح دوما حيث أن القصف والتدمير كانت تتسع رقعته بشكل أكبر.
في يوم الخميس 29 تشرين الأول 2015، لأجلب بعض الحاجيات من منزلنا، وهو يقع في منطقة جامع طه. حيث كانت عدة صواريخ أصابت تلك المنطقة الأسبوع الذي سبق الزيارة.
كنت في المنزل حين بدأت حملة القصف على دوما بمختلف أنواع الأسلحة في تمام الظهيرة. وارتفع صوت سيارات الإسعاف والدفاع المدني وصفارات الإنذار ليس أقوى من صوت الانفجارات والصواريخ وقذائف الهاون. كانت هذه الأصوات وحدها تسيطر على الموقف.
تجمّدت في مكاني والخوف والرعب في قلبي، حاولت أن أشغل نفسي وبدأت أقرأ آيات من القرآن لأهدئ من روعي. أصبحت الساعة الرابعة عصراً وما زال القصف على وتيرته، وأنا أنتظر أن يهدأ القصف لأخرج من دوما.
بدأت قطرات المطر تتساقط فأحسست بارتياح، وحدثت نفسي: الآن سيتوقف القصف لأن الطائرة لا تخرج في هذه الأجواء. لكن أمنيتي خابت فما هي إلا دقائق فقط حتى سمعت صوت انفجارين تلاهما صوت الطائرة.
آه إنه الطيران الروسي عليه لعنة الله يخرج حتى في أصعب الظروف الجوية ماذا أفعل الآن لا أعرف سأنتظر قليلاً أيضاً.
أصبحت الساعة الخامسة مساء، وهدأ الوضع بشكل نسبي فقررت الخروج وبسرعة نزلت إلى الشارع. لأصعق بحجم الدمار الذي سببته حمم الموت في ذلك اليوم. كانت خمس ساعات فقط كافية لتغيير وجه المنطقة بالكامل. الأمطار الهاطلة تزيل رائحة الدم التي كادت أن تخنقني، أحسست أني اختفيت أعواماً في ذلك المكان لهول ما رأيت.
في الطريق شاهدت أم عمر شقيقة زوجة أخي تركض مسرعة، فلحقت بها أناديها علها تعرف ما الذي حدث. أجابتني بسرعة وقالت لي بأن ابن اخي معاذ وأخيه براء منذ الساعة الحادية عشر ظهراً خرجا من المنزل ولم يعودا. أخاهم خالد كان يبحث عنهم في النقط الطبية. ومنذ قليل وجد معاذ في نقطة دفن الموتى مكفناً بعد أن أصيب بشظية بترت قدمه اليمنى، ومات بعدها مباشرة. أما براء فما زالوا لا يعرفون مكانه.
أصابتني كلماتها بالذهول والحزن. وبدأت أبكي ونسيت وجهتي. وذهبت معها إلى منزل أخي لأدخل عليه وأجد جثمان معاذ الصغير ملفوفاً بكفن زهري اللون وأمه تمسك به وتبكي فوقه. وأخي ينظر إلى فلذة كبده وهو يدعي الله بأن ينتقم من بشار الأسد.
لا يوجد كلمات يمكن أن تصف فجيعة أب بأولاده أو أم. ودعت معاذ وقبّلته وأخبرته بأن يسلم على ابني الشهيد الذي رحل قبل عامين. ضممته إلى صدري، وجدت فيه رائحة ابني.
تجدد ذلك الحزن الذي كنت أدفنه في قلبي وبكيت بنفس الحرقة التي بكيتها عند استشهاد ابني.
في دوما حيث الحرب حلت لا تنتهي الجراح والمآسي. أمسكت بيد أخي ضممته كالطفل الصغير إلى صدري وبكيت معه. وجاء ابنه خالد يستعجل الدفن وأمه تمسك بجثمان أخيه وترفض أن تبتعد عنه.
حاولت تصبيرها وأقنعتها بأن تترك جسد معاذ الطاهر ليتم دفنه، فالقصف يمكن أن يتجدد في أي لحظة.
وذهب خالد على عجل بعد أن همس في أذني. قال لي بأنهم وجدوا براء في نقطة العمليات وهو الآن تحت العملية. فقلت له بأني سأذهب إلى هناك لأطمئن على وضعه الصحي.
جلست قليلاً مع زوجة أخي بعد أن ذهب الجميع للدفن، وقلت لها بأن براء في العمليات وبأني سأذهب لأرى مدى إصابته، ووعدتها بأن أعود بسرعة لأخبرها عن وضعه. تركتها في عهدة أختها وذهبت على عجل أقصد نقطة العمليات وهناك وجدت عشرات الناس قد اصطفت أمام النقطة الطبية تسأل عن المصابين.
وصلت إلى باب النقطة ووجدت عبادة، صديق ابني، أدخلني إلى غرفة استراحة الممرضين، وعاد بعد قليل ليخبرني بأن براء في غرفة العناية المشددة تحت المراقبة. هناك وجدت براء ملطخاً بالدماء وجسده مغطى بقطعة قماش صغيرة وهو يئن ويبكي ويطلب الماء. ما إن رآني حتى أمسك بيدي وبدأ يلح بطلب الماء. أخبرتني الطبيبة المناوبة أنه فقد الطحال وجزءاً من الأمعاء والمعدة وهو ممنوع عن الأكل والشرب. شكرتها وعدت إلى براء الذي بدأ يصرخ لأنه يريد الماء. سألته عما حدث معه فأخبرني بأنه كان قد تعلم ركوب الدراجة، وطلب من أبيه بعض النقود ليذهب على دراجة أخيه معاذ، ليشتريا بعض الحلوى. قاد هو الدراجة وخلفه أخيه معاذ، وعندما وصلا إلى شارع القوتلي سقطت القذيفة بالقرب منهما. وبعدها وجد نفسه في الإسعاف وبدأ يسألني عن معاذ فأخبرته بأنه في انتظاره بالمنزل. وكان الحزن يعتصر قلبي .
معاذ كان عمره 12 عاما فقط وكان براء يصغره بعام واحد.
قمر السعيد، سيدة في الأربعين من عمرها، أم لثلاثة شبان فقدت أحدهم. وثلاث فتيات هاجرت إحداهن مع زوجها. أما زوج قمر فقد تعرّض للاعتقال كما بُتِرت قدمه وفقد إحدى عينيه. لم يطل الأمر حتى تلقيت الرد بأن قمر فارقت الحياة فعلاً، بجسدها هذه المرّة وليس بروحها فقط. في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، تعرضت المزرعة حيث كانت تقيم مع بقية أفراد عائلتها للقصف، ما أودى بحياتها وحياة إحدى قريباتها.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي