إنهم يغتالون الأمل
لم يبق طلاب في المركز. غادروا جميعاً، و لكن يجب أن أتاكد قبل أن أقفل الباب. تجولت بين القاعات ووجدت باب الصف الأول مفتوحاً، دخلت إلى الصف فوجدت هبة المعلّمة تقبع في ركن الغرفة. كانت مستندة على المقعد الأول، ممسكة بوشاح شتوي وتبكي.
سارعت إليها حاولت تهدئتها: “هبة ما بكِ؟ لماذا تبكين؟”
أجابتني: “اليوم أنهيت الوشاح الذي سأهديه لحسن، عندما يخرج من المعتقل لقد مضى عليه سنة ولا أعرف عنه خبراً”.
سقطت كل الكلمات من ذاكرتي، أمام تلك الدموع الخائفة من المستقبل والمملوءة بالأمل. قلت لها “غدا ستتحسن الأحوال وسيخرج حسن بالسلامة، وسنقيم لك فرحاً كبيراً أحلى من حفلة خطوبتك، والآن فلنخبئ الوشاح لحين يخرج حسن من المعتقل”. أمسكت بيدها وأخرجتها من الصف وغادرنا معاً. لم أتمالك نفسي في طريق عودتي إلى المنزل، فاضت عيناي بالدموع، فأخي أيضا انقضى عام كامل على اعتقاله دون أن نسمع خبراً واحداً عن مكان تواجده. لا أفهم القوة التي يمتلكها النظام ليتحكم بحياة شعبٍ كاملٍ، يزج من شاء في المعتقل ويغيّب من شاء عن الحياة، ويوقف حياتنا بظلمه وجبروته. ويبقى الأمل هو الصديق الوحيد، الذي يرافق أرواحاً تنتظر أرواحاً أخرى، تسكنها وتعيد إليها الحياة.
في صباح اليوم التالي بحثت عن هبة أثناء الفرصة، لأطمئن عليها. وجدتها مبتسمة مع زميلاتها، كانت تحدّثهن عن طبخة جديدة اخترعتها، في ظل ظروف الحصار القاسية التي تعيشها الغوطة الشرقية، حيث تنعدم أغلب المكونات الغذائية. ولكنّ نساء الغوطة الصامدات يبدعن بابتكار طبخات جديدة، يضفن إليها روح الأمل بقرب الفرج و سقوط النظام. جلست بينهن نتحدث عن آخر الأخبار و نوزع جرعات الأمل بيننا و نشد عزيمة بعضنا بعضا.
بعد عدة ايام بدأت هبة بحياكة وشاح جديد لحسن. أضافت إليه ألواناً أخرى تدعو إلى التفاؤل. انقضى العام الدراسي وكانت هبة مازالت تنتظر حسن، و تبحث عن أصغر خبر يتعلق به، وتتمسك بأمل عودته من جديد. و بعد انقضاء عطلة الصيف عدنا إلى المدرسة وعادت هبة إلى صفها تملؤها الحياة وتسكن فيها من جديد. لأكثر من مرة رافقتها إلى السوق لتشتري أشياء تحضرها لحسن، الحبيب الغائب، أما أنا فاشتريت لأخي في ذلك العام قميصاً يحمل اللون الذي يفضله. ولا أنسى أن أدفن في صدري خوفي الكبير من احتمال عدم عودته.
كانت والدة حسن في العاصمة دمشق، خارج الغوطة المحاصرة، كانت تبحث عن ولدها في الأفرع الأمنية. النقود التي جمعتها ثمن ما باعت من متلكاتها ومدخراتها كانت تدفعها إلى المحامين والقضاة و ضباط النظام المرتشين، لتحصل على معلومات عن ابنها حسن و تتصل بهبة و تخبرها بما لديها.
و في 15 ديسمبر/كانون الأول 2014، أثناء ذهابي إلى المركز سمعت المؤذن في الجامع ينعي شاباً شهيداً قضى في معتقلات النظام، حاولت أن أنصت جيداً وكاد أن يغمى علييَ لهول الصدمة، إنه حسن خطيب هبة، ركضت مسرعة إلى بيت هبة لأجدها غارقة في حضن أمها تجهش بالبكاء و تصرخ.
مددت يدي لأمسكها فعانقتني، وبدأت تحدثني: “حسن مات، حسن استشهد، استشهد منذ سنة، كان قد استشهد حين كنت أنسج له الوشاح، كان بحاجة لكفن في قبره، هو ذهب منذ زمن وانا كنت لا زلت أنتظره”.
سألتها هبة: “كيف عرفتم الخبر وهل أنتم متأكدون”.
أجابتني “والدة حسن استطاعت أن تصل إلى محامي، وعملت بطاقة بحث عنه، وعلمت أنه كان في فرع الخطيب لمدة ستة أشهر، ومن بعدها نقل إلى المشفى العسكري. وذهبت إلى المشفى فعلمت أنه أصيب بداء السكري، وأن جسمه كان يتفسخ بسبب أنواع التعذيب التي يتلقاها من جلادي الفرع، وعندما ساءت حالته تم نقله إلى المشفى العسكري حيث بقي شهراً واحداً، توفي بعدها وتم دفنه بالمقبرة الجماعية. وقاموا بتسليمها هويته وأغراضه الشخصية، ونهروها وأمروها بالخروج. اتصلت بي لتخبرني باستشهاده”. توقفت هبة عن الكلام وغرقت في صمت قاتل. غرقت بدموعها المؤلمة. حاولت أن أتماسك أمامها، ولكنّ صورة أخي لم تفارقني فبكيت، وبدأت ألعن النظام المجرم والمعارضة المتخاذلة، والمجتمع الدولي والاسلامي والعربي على حد سواء، الذين غفلوا عن حال أهل سوريا المنكوبين، وغضوا الطرف عن قضية المعتقلين المنسيين في فروع نظام الأسد. نصف مليون معتقل مغيّب، وهم يعانون أشد ألوان العذاب من أزلام النظام المجرم .
لا تزال كلمة هبة تهز نفسي عندما حدثتني و قالت “لم أحزن لخبر استشهاده بل على العكس لقد ارتاح من عذابهم، الذي أحزنني أنه استشهد منذ سنة ولم يعلم أحد ممن يحبونه او ينتظرونه بهذا الأمر”. أصابت هبة عين الحقيقة، فقط في سوريا نتمنى لأولادنا أن يموتوا ليتخلصوا من العذاب، فموتهم إنقاذ لحياتهم من الجحيم وهو الطريقة الوحيدة لينتهي وجعهم. اغتيل أمل هبة بعودة خطيبها أما أنا فمازلت أحمله في قلبي انتظاراً لعودة أخي.