إنتبه قناص
يوم 17 حزيران/يونيو 2012، أذكر ذاك الصباح كأنه الأمس. خرجتُ مسرعة من منزلي الواقع بقرب سوق الجسر الأبيض باتجاه منطقة العدوي، كي أستقل حافلة تقودني إلى مدينتي في الغوطة الشرقية. كانت الأوضاع حينها داخل المدينة عبارة عن حواجز أمنية منتشرة في كافة الأحياء وبعض قناصي قوات النظام. المدينة لم تكن بعد قد تحررت أو دمرت وهجرها سكانها، كما هي الحال الآن. الطيران عبث بأبنيتها وشوارعها التي أصبح خالية من كل شيء ما عدا الموت .
عند الساعة الثامنة تماماً كان موعدي مع امتحان لإحدى دورات الإسعافات الأولية. كنت متفائلة إن نجحتُ بها سأتقدم لمرحله أخرى في مجال الإسعاف، لأطور نفسي أكثر. امتدت تلك الدورات قرابة الستة أشهر، حصلت بعدها على شهادة خولتني أن أصبح شبه ممرضة وليس مسعفة فحسب . وصلت عند الساعة السابعة إلى موقف الحافلة، وبينما كنت أنتظر بدأ العديد من الأشخاص بالتوافد، بدت على محياهم بوادر القلق. كانوا يحملون بين أيديهم مراجع وكتب، أدركت حينها أنهم طلاب الثانوية فاختباراتهم قد بدأت أيضاً. كنا نذهب ونعود في مكاننا، والقلق يتزايد وينتشر بين الجميع. الحافلة التي ننتظرها كي تقلّنا تأخرت، وباتت أعيننا تتعلق بنهاية الشارع التي من المفترض أن تأتي منه. بعد مضي نصف ساعة على موعدها وصلت الحافلة، أسعفنا الحظ واستطعنا أن نستقلها. الساعة الآن 7:30 دقيقة أي نصف ساعة وحسب يبدأ موعد دخول الامتحان. وما يزيد الارتباك داخل الحافلة توقفها المستمر في كل مرة بسبب الحواجز المنتشرة، وطلب الجنود بطاقاتنا الشخصية ليتأكدوا من عدم وجود أي مطلوب بيننا. كلما طال انتظارنا على كل حاجز يزيد بكاء الفتيات من حولي، وهن يعلمن تماماً أنهن سيصلن متأخرات. وقد لا يسمح لهن بدخول الامتحان. حينها سمعت صوت إحدى السيدات تقول: “لاعليكِ توقفي عن البكاء، عندما تصلين إلى مركز امتحانك أخبريهم أنكِ من طرفي”. كانت تلك السيدة إحدى المفتشات اللواتي يجلن على مراكز الامتحانات لمراقبة آلية سير عملها. حينها فقط هدأت تلك الفتاة واستعادت شيئاً من شجاعتها.
بعد عناء استطاعت قدماي أن تطآ أرض مدينتي المتعبة، برفقة الفتاة المرتعشة. لم استطع تركها بتلك الحالة السيئة، أمسكت بيدها لطمئنتها بأن كل شيء سيكون على مايرام. ولكن حال وصولنا إلى باب المدرسة، منعت الفتاة من الدخول لتأخرها أكثر من نصف ساعة. حاولنا بشتى الوسائل لكن دون جدوى، برغم أننا ذكرنا اسم تلك السيدة ليسمحوا لها بالدخول. بدأ صوتي بالارتفاع احتجاجاً على تلك المعاملة السيئة، وأثرنا من حولنا الكثير من الجلبة. ما دفع رئيس المركز ونائبه للقدوم ومعرفة أسبابها. حاولت إقناعهما السماح لتلك الفتاة بالدخول، لكن عناد رئيس المركز وتكبره علينا كان أكبر مما يوصف، فهو شبيح من نوع مختلف، لكن نائبه كان مختلف عنه تماماً، اقترب منه وهمس له ببضع كلمات وابتعدا قليلاً كي لا نسمع ما يقولانه. برهة من الزمن عاد نائب رئيس المركز وعلى وجهه ابتسامة. دعا الفتاة للدخول وتقديم الامتحان. ما إن قال تلك الكلمات حتى انطلقت مسرعةً وعيناها تملأهما الدموع.
أكملت مسيرتي وأنا محتارة مما قد يحصل معي، هل سيقبلون أن أدخل لقاعة الامتحان مثلها رغم تأخري. ولسوء حظي وبينما كنت أسرع الخطا سمعت صوتاً مرعباً جعلني أقف ساكنة دون حراك كان أمامي رجل عجوز يصرخ بوجهي أن أسرع قبل أن يطلق القناص رصاصته الثانية. كانت الرصاصة الثانية ستقتلني بكل تأكيد، فأنا في وسط الطريق، لا أستطيع التحرك مهما حاولت. ومن دون أن أدري أمسكت سيدة بيدي وسحبتني من خوفي إلى لطرف الآخر. مشينا برهة من الوقت، واحتمينا بإحدى الأبنية. كنت مصدومة مما جرى، حتى تلقيت صفعة قوية من تلك السيدة، أعادتني إلى رشدي. نظرت بعينيها، وبدأت بالاعتذار الشديد لها وبشكرها. نجاتي في ذلك اليوم كانت أمراً مستحيلاً، لم تكن قابلة للتصديق حتى يومي هذا. استعدت رشدي لأواجه مشكلةأخرى، كيف سأعود إلى المنزل؟ بعد تلك الرصاصة بدأ وابل من الرشقات النارية، في ما بدا وكأنه عملية تبادل إطلاق نار. ما يعني أنني سأعلق بهذا المكان لوقت إضافي، والشيء الذي قدمت لأجله ذهب سدى فالساعة الآن التاسعة. عاد الهدوء شيئاً فشيئاً، وبعد مضي أكثر من ساعتين كان من المستحيل الخروج من مكاننا، وفكرة البقاء بهذه الحالة حتى يحلّ الليل غير مقبولة، والخروج من البناء أمر جنوني ومخاطرة كبيرة. فوجئت بالسيدة قد نهضت وصعدت إلى الطابق العلوي، وبدأت بقرع أبواب المنازل، لم يطل الأمر حتى فتحت الباب سيدة تحدثا على عجل. ما هي إلا ثواني وحسب حتى كنا داخل المنزل نشرب الشاي وكأن شيء لم يكن.
بقينا في منزل تلك السيدة 4 ساعات حتى عم الهدوء، وبدأنا نسمع سيارات مدنية تجوب الشوارع من جديد. حينها خرجتُ من المنزل شاكرةً أصحابه. وعدت لأقف أمام امتحان القنّاص من جديد، امتحان الحياة والموت. كيف سأنتقل إلى الطرف المقابل؟ و كيف يعيش أهالي هذا الحي وفي نهايته ينتظرهم القناص؟ حاولت استجماع ما بقي من شجاعتي، وركضت بأسرع ما يمكن، كأنني بماراثون، أركض وأركض. كنت قد قطعت الشارع لكن من الخوف لم أستطع التوقف. حالة معاكسة أصابتني. ما عشته ذاك اليوم كان جزءاً من حياة أهل المدينة اليومية، اشتباكات واقتحامات وقصف مدفعي في فترة الصباح، وبعد الظهر تقريباً تعود الحياة طبيعية في ظل سيطرة قوات النظام عليها.
مرام سعد (24 عاماً) ولدت في إحدى مدن الغوطة الشرقية في ريف دمشق. متطوعة في الهلال الأحمرمنذ 6 سنوات. خلال الثورة كانت متظاهرة ومسعفة ميدانية وناشطة إعلامية من العاصمة دمشق، عملت مع عدة وكالات إخبارية محلية. مرّت بأوقات صعبة خلال إسعاف المصابين أعنفها وفاة والدها بين يديها عام 2014 بعد نزوحهم إلى مدينة دمشق.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي