إبن التسعة أشهر مات في المجزرة!
ممرضة مناوبة في قسم الحضانات في احدى مشافي ريف ادلب تتفقد أحد الرضع- تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"ماتَ أسعد، الطفل الرضيع... راحَ ضحية مجزرة الكيماوي... ومثلُ أسعد، الكثيرون قد ماتوا..."
جاء أخي محمد لزيارتنا في قريتي الجميلة، مع زوجته وطفلهما الصغير أسعد، الذي لم يكن قد تجاوز التسعة أشهر من عمره. جاءوا من مدينة خان شيخون… المدينة التي نزحوا إليها بعد سيطرة جيش التابع للنظام الحاكم في دمشق على قريتهم .
كانت فرحتنا كبيرة أنا وأطفالي بلقاء أخي، كان ذلك يوم الجمعة 31 آذار/مارس 2017… ومكثوا عندنا يومين .
قضينا وقتاً ممزوجاً بين تذكّر أيام الطفولة والحديث عن آلام الحرب… بين ابتسامةٍ كالأطفال وبين بكاء المهجّرين والمحاصَرين المنكوبين… ولم نكن نعرف ماذا تخبئ لنا الأيام القادمة، هل من مزيدٍ من الآلم؟!
غادرَ أخي محمد وعائلته إلى خان شيخون وجاء الخبر الصاعق بعدَ يومين… خبرٌ أدمى قلوبنا… مجزرة الكيماوي في خان شيخون، في 4 نيسان/أبريل 2017.
ماذا سأفعل؟ هل ماتَ أخي وعائلته في المجزرة؟ كيف أطمئن؟ تذكّرتُ أنني وحيدة، فزوجي يمكثُ في سجون النظام… ماذا أفعل؟ فقط البكاء والبكاء، ولم يكن هناك في البداية من وسيلة للإتصال!
تنشّق أخي محمد وزوجته وطفلهما الصغير غاز السارين القاتل. وتمّ إسعافهم مع مئات المصابين إلى المشافي الميدانية والتي تفتقد لأبسط المقومات… لكنّ الأطباء أبوا إلا الاستمرار ومحاولة إنقاذ المصابين الذين تمَّ إسعافهم بعد ذلك إلى مشافي المدن المحرَّرة، ومنهم مَن نُقِلَ إلى داخل الأراضي التركية .
جاءني الخبر الأول بأنّ أخي محمد بخير وكذلك زوجته… ففرحتُ كثيراً وحمدتُ الله على اللطف بهما، فلم يكونا من ضحايا المجزرة… لكن يا ويلي، ابن أخي الصغير قد فارق الحياة….
تحدّثتُ إلى أخي عبر الهاتف وأنا أبكي… فقال لي: “لقد كنتُ بجانب إثنين ماتا على الفور وبقيتُ أنا على قيد الحياة! زوجتي ما تزال حتى الآن في العناية المركّزة، أما طفلي أسعد فلذة كبدي وأمل حياتي فقد فقدتهُ يا أُختاه… ابني ذهبَ خلال لحظات ولم أستطع فعلَ أي شيء لإنقاذه لقد فقدتهُ…” وأنهى المُكالمة وهو يبكي…
ذهبتُ إلى المستشفى في ريف إدلب، حيثُ يمكثُ أخي وزوجته لأكون بجانبهما… وعندما وصلتُ، كان المشهد يدمي القلب… المستشفى مليئة بالمُصابين بالغاز السام … مُصابون من الأطفال والنساء وكبار السن… بحثتُ عن أخي من بين الجموع، وذهبت إليه وأنا قلقه لحاله وحال زوجته المسكينة.
حين دخلتُ إلى الغرفة عانقني، وروى لي ما حصل، فقال: “كنتُ أحاول إنقاذ بعض الناس، وعندما أسرعتُ لإنقاذ زوجتي وطفلي لم أعد أستطع مقاومة الغاز السام وسقطتُ أرضاً… وبدأتُ أشعرُ بالإختناق وبحرقة في عينَي، لم أعد أرى أيَّ شيئ… عندها فقدتُ الوعي وعندما استيقظت وجدتُ نفسي هنا أنا وزوجتي وطفلي كان قد فارق الحياة… لقد فقدتُ أسعد، فقدتُ ولدي فرحة عمري”.
ماتَ أسعد، الطفل الرضيع… راحَ ضحية مجزرة الكيماوي… ومثلُ أسعد، الكثيرون قد ماتوا...
شعرتُ بحرقة على أخي وزوجته.. فطفلهما الصغير، كان بمثابة مستقبلهما الآتي وأملهما الوحيد… بقيا عشر سنوات ينتظران أسعد وقد ماتَ أسعد… قضا عشر سنوات من العلاج بعد مشاكل بالإنجاب… ورزقهما الله أسعد بعد عملية تلقيح اصطناعي …
لكنَّ أسعد قد مات…. عاشَ في رحم أمه تسعة أشهر، وتسعة أشهر خارجه، ثمَّ مات… ما ذنب أسعد؟ ما ذنب كل طفل وكل إنسان ذهب ضحية الغاز الكيماوي السام؟
ستبقى مجزرة خان شيخون وبقية المجازر في كافة المناطق، عاراً على الإنسانية جمعاء إلى أبد الآبدين، وسيلقى المجرم جزاءه عاجلاً أم آجلاً .وسيبقى صمت العالم على هذه المجزرة وسواها وصمةَ عارٍ تهزُّ كيان الإنسانية، إن كان هناك من إنسانية!
أم جمال (29 سنة) من إحدى قرى ريف حماة الجنوبي. زوجة معتقل وأم لأربعة أطفال، لا تعمل وتبحث عن عملٍ تُعيل فيه أطفالها الصغار.