أيام طفولتي أصبحت رماداً
كانت بلدتي كرناز، من أوائل المدن والبلدات في سوريا التي خرجت في المظاهرات، في العام 2011. وكنتُ أشارك في تلك المظاهرات كلَّ يوم جمعة، حيثُ يتجمَّع أكبر عدد من الرجال والنساء معاً.
قبلَ صلاة الجمعة، نجهِّز أنفسنا… فنضعُ الخمار الأسود على وجوهنا أنا وأختي وبعض صديقاتي، وننطلق باتجاه الساحة الرئيسية للبلدة. لنقف إلى جانب بعضنا البعض، مُمسكينَ بأيدي بعضنا… وننتظر قدومَ الرجال. كانت نظراتنا مليئة بالتفاؤل لإشراقة حرية في المستقبل… وتعلو أصواتنا بالهتاف، للحرية والكرامة لساعات طويلة. بقينا على هذا الحال حوالي السنة…
كان الجيش قد انتشرَ في المدن والبلدات المجاورة، وقرَّرَ الدخول إلى بلدتنا…
لن أنسى ذاكَ اليوم. عند الساعة الثالثة فجراً، رنَّ هاتف منزلنا. استيقظنا جميعاً من نومنا، خائفين… أذكر حين رفعَ والدي سمّاعة الهاتف، فكان أحد أقربائنا الذي يعمل في الأمن قد اتصل بنا… ليُخبرنا أنه سيتم اقتحام البلدة في الصباح الباكر، وأنه يجب علينا المغادرة بسرعة!
لم نكن نمتلك أي وسيلة نقل. فهربنا في تلك الساعة، مشياً على الأقدام باتجاه الحقول. العتمة لا تجعلنا نرى شيئاً! وأقدامُنا تصطدم بالأحجار… وأبي يُردِّد: “يجب أن نُسرع، قبلَ مَجيء الجيش والشبيحة…”
تسارعت دقاتُ قلبي من الخوف… ماذا يمكن أن يفعلوا بنا لو أمسكونا؟! أفكارٌ كثيرة كانت تدورُ برأسي… ولم أشعر سوى بالدم يسيلُ من قدمي! فربما ارتطمت بشيءٍ ما، تسبَّب بذلك النزيف!
سقطتُ أرضاً ولم أعد قادرةً على المشي… وحملني أبي حتى وصلنا إلى أطراف البلدة، ووضعني تحت شجرة… لم أعد أحتمل الألم! فذهب والدي إلى أقرب منزل، وأحضرَ معقِّماً… نظَّفَ جرحي، وتابعنا المسير…
أمي إمرأة مُسنّة وليست بقوة أبي، من الصعب عليها السير كل تلك المسافة الطويلة… لكنَّ الله لا ينسى أحداً. مرَّت سيارة قام والدي بإيقافها، وطلب من السائق اصطحابنا معه، كي نذهب إلى أحد أصدقاء أبي في بلدة مجاورة. وهذا ما حصل. وصلنا أنا ووالداي وإخوتي، بعدَ تعبٍ شديد… واستلقينا على الأرض من شدة التعب…
كان صديق أبي رجلاً طيباً. أعطانا غرفة للمكوث فيها… وبقينا عندهُ حتى الصباح. وفي الصباح، حاولَ أبي الإتصال بأحد أقاربنا الذي لم يغادر البلدة، لمعرفة ما الذي حصل بعد خروجنا… فأخبرنا أنّ الجيش دخلَ البلدة، ويقوم بتفتيش المنازل وتخريب كل منزل لا يجد فيه أحداً!
بقينا عند الرجل عشرة أيام… وكان الجيش قد أنشأ حواجزه في بلدتنا، لتقطيع أوصالها واعتقال كل رجل شاركَ في المظاهرات، دون الإقتراب من النساء. فطلبت أمي أن تعود إلى المنزل، كي لا تطاله يد الشبّيحة، وأن نعود أنا وأخواتي معها. وعُدنا إلى منزلنا، أنا وأمي وأخواتي… وأبي وإخوتي الشباب بقوا هناك…
الصدمة الكبيرة، كانت عندَ وصولنا إلى المنزل! كل شيء فيه مُكسَّر ومُحترق! حاولتُ الوصول إلى غرفتي، لأرى أمتعتي وبعضَ الأشياء التي كنتُ أحتفظ بها منذُ الطفولة… لكن يا حسرتي، كل شيء احترق! لم يبقَ لي أي ذكرى من طفولتي، سوى هدية من أبي بعدَ نجاحي في الصف التاسع… جلستُ في الغرفة ودموعي تملأُ وجهي، أتذكَّر أيامَ طفولتي، وألعابي التي أصبحت رماداً…
بعد ما حصل لم يبقَ أمامنا أي خيار، سوى العودة إلى مكان تواجُد أبي، بعدما احترقَ المنزل الذي يأوينا…
كان دخول الجيش إلى بلدتنا أول صدمة تعرَّضنا لها… وبدأت حياتنا بعد ذلك تزدادُ سوءاً، شيئاً فشيئاً…
بعدَ أن كنا نعيش حياةً سعيدة في منزلنا الذي أحرقوه… بدأت رحلتنا بالنزوح من مكانٍ إلى آخَر.
نور المصطفى (26 عاماً) من بلدة كرناز في ريف حماه. متزوجة ولديها طفل وهي ربَّة منزل. نزحت عدة مرات، لتستقر حالياً في إدلب.