أنا عايشة عايشة لا تبكوا
إسمي هبة عمري 23 سنة، أنا وعائلتي من آخر العائلات التي نزحت من دوما. شاهدنا جميع مظاهر العنف من قبل قوات النظام. يقع بيتنا بجانب البرج الطبي، المشهور بأعلى قناص في الحي.
قبل عيد الأضحى بيومين في 28 تشرين الأول/ أوكتوبر 2012، لم يكن قد بقي سوانا في البناء. نزح الجميع وبقي القليل من الأسر في الأبنية المجاورة. في تمام الساعة التاسعة مساء أصيب أحد أفراد جيش النظام برصاصة في رقبته. هرع إليه أحد اصدقائه من “الشبيحة” لإسعافه ونقله الى المشفى. لكن الطريق غير آمن، والجيش الحر يواصل هجماته. قرر أخذ سيارة مدنية وسائقها كدرع بشري. لا يوجد إلّا سيارة أبي أمامهم، ضربوا عليها بأسلحتهم، وهم ينادون صاحبها بألفاظ بشعة. أصابنا الخو على أبي كثيرا، وخفنا أن يصعدوا إلينا فيذبحونا.
حضر أبو ناصر، هو شيخ معروف في دوما. راح يتجادل معهم، أخبرهم أن صاحب السيارة غير موجود، فقد ذهب قبل يومين ولم يعد. طلب منهم أن يتركوا السيارة ويبحثوا عن أخرى، فانهالوا عليه ضرباً. اتهموه بالكذب أمام ابنه حمزة الذي لم يتجاوز سن الـ 15.
أطلقوا الرصاص على السيارة، ووضعوا فوهة سلاح أحدهم الرشاش برأس أبو ناصر. وهددوه بالقتل ان لم يؤمّن لهم سيارة. أصبح بكاء حمزة ومناجاته تعلو أصوات “الشبيحة”. أصبح يرجوهم أن يتركوا والده، وكلما ازداد الولد بالبكاء ازدادت همجيتهم. شعرت بالحزن عليه كثيراً فلا ذنب له، وشعرت بالخوف على نفسي وعلى أبي وإخوتي من أن ينطق حمزة حول مكاننا من شدة رعبه منهم. لا أدري إذا كان هذا نوع من الأنانية أن يحق لي أن أخاف على أبي، فأنا لو كنت مكان حمزة لنطقت لأخلص أبي. الأهم والحمد لله جاءت سيارة وأخذتهم، فتركوا حمزة وأبيه. كنت أراقب من خلف النافذة غاضبة حزينة أبكي وأدعو.
في الصباح الباكر قبل يوم العيد ليلة 29 تشرين الأول/ أوكتوبر 2012، قررت الصيام. تمنيت أن تكون ليلة أفضل من سابقاتها. لكن النزاع اشتد وهجمات الجيش الحر ازدادت على البرج الطبي. أصبح الخطر علينا أكبر، فاحترقت الأبنية التي حولنا بفعل قذائف الهاون من الجانبين. نزلنا أنا وأبي وأمي وإخوتي حزومي وعبودي وأنوسه والصغيرتان لولو التي عمرها 4 سنوات وهدولة سنة، نزلنا إلى أسفل المبنى. لم نعد نسمع سوى صوت دبابات النظام والقذائف والنوافذ التي تتكسر.
بقينا قربة الثلاث ساعات صامتين خائفين، نبكي ونقرأ القراّن. وعندما هدأ الحال قليلا قررنا الصعود إلى المنزل لقضاء بعض حاجاتنا، وما إن وصلنا حتى تناهى إلينا صوت شباب في مدخل بنائنا. جميعنا همس جيش النظام. جاؤوا فحضرنا أنفسنا لمقابلتهم، كنا قد هيّانا أنفسنا على فكرة إما الموت ذبحاً أو بالرصاص.
لكنهم كانوا أفراداً من الجيش الحر جاؤوا لإنقاذنا. كسروا إحدى نوافذ البناء لنصعد الى البناء المجاور عبر الأسطح، كان المكان خطيراً ولكنه أسهل من سكاكين الشبيحة. هناك سطح مرتفع نريد النزول منه إلى القبة عبر سلم خشبي غير اّمن، نزل الجميع قبلي وانا أراقبهم وأنتظر دوري. كنت أخاف الأماكن المرتفعة والجميع يصرخ مشجعاً قبل ان ينكشف مكاننا أو أن تأتي قذيفة هاون. وضعت قدمي على الحافة الرفيعة لتعلق بشريط الكهرباء، يصعب خروجها ولكن حاولت ونجحت أرحت رجلي لتقف على أول درج للسلم لأسمع الجميع “لا لا لا لا لا لا”، ولم اشعر سوى بيد قاسية أمسكت بقدمي ووضعتها على درجة السلم، كدت أصبح شهيدة الهرب من الحرب أو مصابة بإعاقة.
نزلنا بعدها إلى مكان مظلم نتعرف على بعض من خلال ضوء الولّاعة. حاول شباب الجيش الحر كسر الحائط لينقلونا إلى خلف مبنى البلدية فهو أكثر أماناً من حيّنا. لكنهم فشلوا فقررنا الذهاب سيراً على الأقدام …
مشينا كسرب النمل الواحد تلو الآخر وأفراد لجيش الحر يحاولون حمايتنا. فوجئنا بدبابة خلفنا بدأنا الركض بشكل عشوائي وبدأ الصراخ. راح أبي يدفعنا لنسرع، وقعت أختي لولو وجرحت يدها، حملها أبي وهي تصرخ “ماما ماما” والدم ينزف من يدها على كتف أبي. حملت أختي هدولة من يد أمي لنتجنب القنّص في مرماه. أمي لا تستطيع الركض مثلي، لم أخف على نفسي كنت خائفة على الطفلة البريئة التي أحملها. وضعت يدي على رأسها وركضت بها.
وصلنا بخير إلى بيت أقرباء لنا كانوا بانتظارنا. سمعنا صوت طائرة حربية تغير وقصفت لم نعلم أين. هدأنا وأفطرنا بعد الصيام وبعجها تابعنا الأخبار كالعادة قبل أن ننام في قبو المبنى تحسبا من غارات أو قصف مدفعي. كان القبو يعج بالناس، مكان للنساء وآخر للرجال.
في الصباح صعدنا إلى المنزل لنتناول الفطور. اليوم هو أول أيام عيد الأضحى في 30 تشرين الأول/ أوكتوبر 2012. عند الساعة السابعة مساء كان الوضع الأمني هادئاً، قررت وأخي عبودي النزول إلى القبو لإحضار ملابس النوم فكّرنا بالمبيت في المنزل، سبقني أخي عابد وما إن اجتاز الدرجات حتى انهمر عليه الرصاص كالمطر. أكمل عابد نزوله إلى القبو وبدأت أنا بالصراخ “بابا بابا بابا”. وأحسست بالرصاص يخترق قدمي. رحت أقفز كدجاجة، اختفى صوتي، رفعت رأسي لأرى أبي عند آخر الدرجات، غير قادر على النزول لإنقاذي. رأيت شريط حياتي يمرّ أمامي مسرعاً، خفت الموت ومفارقة أهلي. لحظات كان الرصاص قد توقف ونزل أبي وصعد بي إلى المنزل. رصاصتان اخترقتا قدمي وشظايا متفرقة في بقية جسدي. عندما شاهدت وجوه من حولي ودموعهم رحت أواسيهم وأقول “لا تبكوا أنا عايشه عايشه عايشه”.