أم البنات وقد أصبحت أم الشهداء
اغصان الأشجار مصدرها الذي أصبح للطبخ والدفيء نتيجة للفقر الشديد وغلاء الأسعار
"كانت تعلم أنه ينتظر صبياً يحمل اسمه. ومع كل ولادة كانت تقرر أن تحمل مرة أخرى، عسى الله يمن عليها بالصبي الذي سيبدل حياتها"
كانت تشعر وكأنها ترتكب جريمة لا تغتفر، حين كانت تضع حملها الذي دعت ربها أن يكون ذكراً.
وفي كل مرة كان يخيب أملها حين ترى تلك النظرة على وجه والدة زوجها، فتدرك أنها قد أنجبت بنتاً. فتحبس الدموع في قلبها كي لا تشعر من حولها بأنها منزعجة من مولودتها الرابعة. رغم محاولات الزوج الدائمة لجبر خاطرها المكسور، إلا أنها كانت تدرك أنه يخفي غصته حين يقول: “سلامتك في الدنيا”.
كانت تعلم أنه ينتظر صبياً يحمل اسمه. ومع كل ولادة كانت تقرر أن تحمل مرة أخرى، عسى الله يمن عليها بالصبي الذي سيبدل حياتها، وينقذها من شماتة سلفتها، التي كانت تنجب الذكور. ويريحها من لقب أم البنات، الذي يلاحقها.
بعد عشر سنوات من الانتظار تحقق حلمها، وجاء الصبي المنتظر. كانت الفرحة الأكبر في حياتها، والانتصار العظيم في معركتها مع البنات. أصبح محمد أول صبي في عائلتها، ولأول مرة ترى والدة زوجها ضاحكة مستبشرة بأن الصبية حان دورهم، وأنهم سيحملون اسم والدهم بدل من البنات اللاتي ملأن المنزل.
لم تكن السعادة التي غمرت البيت خافية على أحد، وانطلقت الزغاريد من أفواه النسوة وكأن معجزة قد تحققت بعد قدوم محمد. وبدأت تحلم بمستقبل ابنها رغم الساعات القليلة من عمره. فلابد أن يكون ذكياً وناجحاً في حياته ومهندساً كوالده. ومع كل حركة أو مناغاة كانت الفرحة تكبر، وكل العيون تراقبه وتنتظره ليكبر.
ثم بدأت المرحلة الثانية من معركتها، فلا بد من إنجاب صبي آخر، يكون سنداً لمحمد حتى لا يبقى وحيداً في هذه الدنيا. وتحقق حلمها للمرة الثانية بقدوم شقيقه أبو بكر، واكتملت سعادتها فقد مات لقب أم البنات. ها هي تحقق فوزاً عظيماً، بعد إنجابها للغلام الثاني.
وتوالت إنجازاتها بعد أن أنجبت الصبي الثالث عمر، والذي حمل من الجمال أكثر بكثير من شقيقيه، وها هم صبيتها يملأون المنزل بصخبهم وعراكهم، وقد نسيت تماماً ما قاسته من شماتة من حولها بعد أن عيروها ببناتها، ليأتي عثمان الصبي الرابع وتصبح كفة ميزانها متساوية بين الذكور والإناث.
كانت السنوات تمر مسرعة، وهي ترسم مستقبلاً مميزاً لأولادها، الذين سيكبرون ويدرسون ويحملون أعباء الحياة عن والدهم. لم تتخيل للحظة أنها ستفقد أحدهم، ولم يخطر ببالها يوماً أن السعادة التي تحياها مؤقتة. فهي تراهم شباناً مميزين وناجحين وتحلم أن ترى أولادهم وهم يكبرون حولها.
لم تدرك أنهم سيكبرون قبل أوانهم، ويتحولون إلى رجال وهم بعمر الطفولة، هكذا فرضت عليهم الثورة السورية. عبور مرحلة الطفولة والانضمام لصفوف الرجال باكراً. حالهم كحال أطفال سوريا، الذين لبسوا عمراً فضفاضاً لا يشبه عمرهم.
محمد وفي سن الـ 15 كان من أوائل المتظاهرين في سراقب. رغم أنه لم يكن يدرك أبعاد الفساد الذي تعاني منه دولته، لكنه رأى في مقتل حمزة الخطيب سبباً كافياً ليكون في صف المنادين بإسقاط النظام. ولأنه امتلك حنجرة مميزة، وصوتاً قوياً أصبح قاشوش سراقب (لقب نسبة إلى منشد الثورة السورية ابراهيم القاشوش).
وبدأ محمد يهتف في المظاهرات، ويغني الأغنيات التي كانت تكتب للثورة، إلى جانب أشقائه الذين ساروا معه بنفس الطريق رغم صغر سنهم. لم يحملوا سوى حلم الانتصار على الظلم الذي سرق طفولتهم. لم تكن غصون الزيتون بأيديهم، قادرة على حمايتهم من جنون الموت المتغلغل في شوارع سراقب.
قضى محمد في سن الـ 19 عاماً بوابل من رصاص، رصاصات استباحت جسده على أحد الحواجز الموجودة بالقرب من سرمين أثناء عودته إلى سراقب. وبحجم السعادة يوم ولادته، كان الحزن مضاعفاً في ذاك اليوم والكل غير مصدق أنه قد فارق الحياة.
لم يكن محمد نهاية الحزن، بل كان بدايته. وكأن الموت لم يقبل أن يترك شقيقه خلفه، لكنه كان ينتظره ليصل إلى نفس عمره، وليلحق أبو بكر بشقيقه مسرعاً رافضاً البقاء في هذه الدنيا بدونه.
لكن الموت جاء هذه المرة فوضوياً، بين هدير الطائرات، والجثث المنتشرة في الشوارع وصراخ أبو بكر الذي يحاول إنقاذ الناس من تحت الركام. اصطاده البرميل المتفجر الملقى من الطيران المروحي، وبعثر جسده أشلاء، لا يقوى الموت نفسه على جمعها. دفن في قلب أمه كاملاً خلافاً للقبر الذي ضم رأسه فقط، بعد أن مزقت مخالب الموت باقي الجسد وضاع بين الأنقاض.
هل كان الموت يرسم خططه في كيفية اقتناص روحيهما. وليترك بصماته السوداء على قلبي أم وأب لم يفرحا بشباب أولادهما، وهو يمارس العد التنازلي على صبية طال انتظارهم. وبدأ الخوف يكبر من فقدان عمر حين يبلغ نفس عمر إخوته، وكأن هذا السن هو لغم لا يمكن اجتيازه.
ولكن الموت كان خبيثاً جداً هذه المرة وماكراً، حين ارتدى قناعاً آخر ليخدع عمر في سن الـ 17، ويحوله إلى معتقل في سجون النظام، يتجرع الموت اليومي، بأصناف مختلفة من العذاب، طيلة سنوات اعتقاله، وليصبح الميت الحي، الذي لا يعرف قبره في أي فرع من الفروع الأمنية.
لم يبق اليوم سوى عثمان ذو الـ 14 ربيعاً، والذي خسر أشقاءه الثلاثة، وبقي بدون سند سوى القهر والخسارات.
أما هي وبعد أن نرعت عنها لقب أم البنات عادت لتحمل لقباً جديداً يتّشح بالحداد، في مدينتها يعرفونها اليوم بأمّ الشهداء.
غادة باكير (44 عاماً) مديرة مركز البراءة للطفولة والدعم والإرشاد النفسي، مدربة في مجال الاستعداد والحماية عضو منتدى المرأة السورية في سراقب.