أفكار سورية… مازن درويش… وآخرون
مؤخراً، أتمّ مازن درويش ومعتقلي “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” الستين يوماً وأجسادهم ملقاة على إسمنت زنازين فرع المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري: حسين غرير أبٌ لطفلين ومُعتقل سابق؛ أيهم عزول طبيب أسنان احتفل بعامٍ جديد في عمره خلف قضبان زنزانته؛ هاني الزيتاني لا يزال يطمح بأن يتابع دراسته ويحصل على شهادة الدكتوراة؛ جوان فرسو فقدَ عمله الليلي بسبب تغيّبه عنه، وهو من المُعيلين لأسرته؛ بسّام الأحمد تشمّ والدته رائحته في أيّ خبرٍ، في أيّ صوتٍ يحوي إسمه؛ منصور العمري كان يحلم بأن يسكن في المنزل الجديد، لكنّه اعتقل قبل أن يرتب الأثاث فيه. وعبد الرحمن حمّادة، تنتظر حبيبته “بياع الخواتم” ليأتيها بما وعدها به عبد، وهو مُعتقلٌ سابقٌ لدى فرع المخابرات الجوية، الفرع الذي اعتقل الجميع يوم حفلة عيد ميلاده.
إذ داهمت قوى المخابرات الجويّة مكتب الإعلامي والحقوقي مازن درويش في دمشق ظهر يوم 16/02/2012 واعتقلته مع طاقم عمل “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” وضيوف المكتب جميعاً، وقد بلغ عدد المعتقلين 14 شخصاً. لم يكن هذا هو الاعتقال الأوّل للسيد درويش، ولا الإنتهاك الأوّل الذي يتعرّض له كمواطنٍ سوري، وكإعلامي وحقوقي. إذ إنّ مازن درويش ممنوعٌ من السفر منذ العام 2007، وسبق أن تعرّض مكتبه للإغلاق مرتين، آخرهما من قبل إدارة المخابرات العامة بتاريخ 14/09/2009، كما سبق له، ومنذ أكثر من عام، أن تقدّم بطلبٍ إلى نقابة المحامين في دمشق للإنتساب إلى مهنة المحاماة، دون أن يتلقَى أيّ ردٍ رسمي بهذا الخصوص. لم تتوفر حجّة قانونية تمنعه من ذلك، ولكن القرارات الأمنية الرافضة كانت هي الحاسمة.
“حرية الصحافة قيمة، والدفاع عنها واجب”، مقولة ثابتة تختصر جوهر عمل “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، الذي تأسّس عام 2004 ليكون أوّل منظمة سورية مختصة بالشأن الإعلامي، تعمل بشكلٍ احترافي من داخل الأراضي السورية، الأمر الذي التزمت به المؤسسة طوال سبعة أعوام حتى نالت من خلال مهنيّتها وفاعليّتها الصفة الاستشارية في الأمم المتحدة عام 2011، وهي أوّل منظمة سورية غير ربحية وغير حكومية تنال هذه الصفة.
فمن هو مازن درويش وما هو “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”؟
مازن درويش فكرة، والمركز مساحة لإظهار تطبيقات هذه الفكرة، الأمر الذي لا نستطيع الجزم بأنّ السلطات السورية قد أدركته؛ إذ إنّ مضايقاتٍ كثيرةً تعرّض لها السيد درويش، إلاّ أنّ هذه هي المرّة الأولى التي يُعتقل بها طاقم عمل المركز مع مديره، وعليه فهي المرّة الأولى التي تهاجم فيها السلطات السورية “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” كمؤسسة وليس شخص السيد درويش. أمّا لماذا لا نستطيع الجزم، فلأنّ المحقق في أثناء الإعتقال يُحاكم السيد درويش، والمجتمع السوري يُحاكم الممارسات الشكليّة للقضاء السوري. إلاّ أنّ التاريخ هو من سيحكم في النهاية على السلطات التي قادت عملية الاعتقال التعسّفي ومارست المحاكمة الشكليّة، وهو كذلك من سيحكم على السيد درويش وعلى مركزه. هذه المعادلة لا تتوانَى السلطات السورية يوماً بعد يوم عن تأكيد عدم إدراكها لها بتاتاً.
إذ لا يمكن قراءة انتهاكاتها بحق الإعلامي مازن درويش و”المركز السوري” سوى باعتبارها ممارسةً تهدف إلى القضاء على فاعلية هذا المركز وشلّ حركة السيد درويش، تماماً كما فعل السلطان عبد الحميد مع أبو خليل القباني رائد المسرح الغنائي العربي في القرن التاسع عشر، والذي هاجر إلى مصر بعد أن أُحرق مسرحُه، وكما فعلت السلطات السورية مع المخرج عمر أميرالاي، الذي اختّص في السينما التسجيلية، فمنعته من السفر بالإضافة إلى منع عرض أغلب أفلامه، وحالات أخرى كثيرة عن أفكار دفع أشخاص سوريون حياتهم من أجل نقلها إلى سوريا وإلى كل مواطن سوري. ومن جهتها لم تتوانَ السلطات الرسمية عن ممارسة أي فعل قمعي ضدّهم، والذي ترفض السلطات الديكتاتورية إدراكه، كما توضح التجربة، أنّ محاربة حامل الفكرة حتى ولو وصل الأمر حد وفاته لا يمنع تحقيق الفكرة، فالمسرح انتشر في سوريا وفي مختلف أشكاله ومدارسه، كما ظهر جيلٌ بأكلمه من الشباب الذي يعمل في السينما التسجيلية والسينما الوثائقية، والحال ذاته مع فكرة حرية الإعلام.
منذ العام 2004 و”المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” يعمل على إصدار تقريره السنوي الذي يرصد من جملة ما يرصد البيئة القانونية للإعلام السوري، البيئة الوظيفية التي يرزح تحت وطأتها الإعلاميون السوريون، ومُجمل الانتهاكات التي يتعرّض لها العاملون في الحقل الإعلامي في سوريا. وقد كان تقرير المركز المُعَنوَن “أداء الإعلام السوري في فترة الانتخابات التشريعية عام 2007” الأوّل من نوعه، وقد أتبعه برصد “أداء الإعلام السوري في الإستفتاء الرئاسي 2007،” بالإضافة إلى تقريره الخاص برصد واقع الإنترنت في سوريا والمعنون “ترويض الإنترنت”.
تقارير “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، التي قامت على معايير دقيقة وموضوعية وتقييمات إحصائية، البيانات التي وقفت دوماً على مسافة واحدة من جميع الفرقاء – فرفض الإنتهاكات التي يتعرّض لها الإعلامي أثناء ممارسته لعمله هو رفض للإنتهاك بذاته أيّاً كان الموقف الذي ينقله الإعلامي – الدورات والورشات التدريبية التي أقامها المركز لشباب يبحث عن المعرفة التطبيقيّة خارج حدود المنهج التبصيمي الذي تعتمده كليّة الإعلام في سوريا، والقائم على حفظ المقرارات ومحدوديّة مجال التطبيق، المتابعة الأوّلى من نوعها في العالم العربي لرصد واقع المطبوعات في سوريا، ومختلف نشاطات المركز الأخرى، قدّمت للعديد من الشباب المهتم المعرفة بإعلام مختلف عن إعلام “البعث” الذي قيّد حرية الصحافة وهمّشها كسلطة رابعة لأكثر من أربعة عقود.
في عام، 2004 كانت “حريّة الصحافة قيمة، والدفاع عنها واجب”، مجّرد فكرة، لكنها اليوم ممارسة شعبية، حرّة، ويومية، ومستمرة رغم اعتقال السيد درويش وطاقم عمل مركزه، الأمر الذي قاد إلى وقف نشاط المركز مؤقتاً. فحين قُتل الصحفي الفرنسي “جيل جاكييه” بتاريخ 12/01/2012 في حمص، أعلن شباب التنسيقيات يوماً خاصاً للحداد عليه، ورفعوا في مظاهراتهم اللافتات التي توجه التحيّة إليه. لاحقاً، وفي سبيل إنقاذ الصحفي البريطاني بول كونري المصاب إثر قصف المركز الإعلامي في بابا عمرو في حمص، فقد أكثر من أحد عشر ناشطاً حياتهم، ومستويات أخرى كثيرة تجلّت عبرها تطبيقات هذه الفكرة.
اليوم، بيانات عدّة، ومناشدات عدّة طالبت بإطلاق سراح موظفي “المركز السوري”، خاصة بعد ورود أنباء عن تردي الوضع الصحي لبعضهم، ومحامون كُثر يترقبون بشكل يومي تحويلهم إلى القضاء السوري، لمعرفة التهم الموّجة إليهم، للإطمئنان عليهم، لكي يروا الشمس مرّة أخرى، بعد أن سقط الثلج مرتين فوق تراب العاصمة دمشق، وبعد أن أزهر اللوز والمشمش، ورفعت السيّدات المدافئ والسجاد مع ارتفاع الصوم وحلول عيد الفصح المجيد. وقد يُطلق سراحهم من الفرع الذي اعتقلهم دون أن توجه إليهم أيّ تهم، وقد يُحالون إلى القضاء، قد يعود السيد درويش إلى عائلته وطفليه الذي فقد القدرة على رؤيتهم بسبب منعه من السفر وإقامتهم في دولة أخرى، وقد لا يعود، بل يمكن أن يعود كما عاد الناشط السلمي غياث مطر، وكما عاد الطفل حمزة الخطيب، لكنّ هذا الألم سيبقى ألماً مباشراً لعائلته، إذ لم يعد السيد درويش فرداً، بل جمع شباباً منتشراً في كافة المناطق السورية، و”حرية الصحافة قيمة، والدفاع عنها واجب” ممارسة يومية لدى شعبٍ يموت نساؤه وأطفاله من أجل حريته في القول والفعل، في التفكير والحياة، في الإختيار والعيش الكريم.
بقلم: صحفي حزين