أعيشُ كَي أُودِّع أحبّتي
A mother visiting the grave of her son who was killed in an air raid in 2015. Photo by: Mujahid Abu al-Jud
"انتشرت رائحة الموت وفاحَت في فمي... كان من بين الشهداء، حفيدتيّ بيسان وآية."
بدأت معاناتي لحظة اعتقال إبني قتيبة من ثكنته منذ ما يقارب الست سنوات، أي مع بداية الثورة.
اعتقلهُ النظام، ظناً منهُ أنهُ يخطّط للإنشقاق… وشكّل خبر اعتقاله صدمة كبيرة بالنسبة لي. لم نستطع معرفة أي خبر عنه، رغم محاولاتنا المتكررة. دفَعنا مبالغَ مالية كبيرة لبعض السماسرة على أمل زيارته أو معرفة في أي فرع هو، لكن دون جدوى.
أصابتني صدمة أخرى، تمثلت باعتقال إبننا الكبير حسين، وأصبح مصيره كأخيه قتيبة! وعلى أثر الصدمتين، تراجعت صحة زوجي كثيراً.
أمضى حسين عدة أشهر في السجن، وبعد فترة خرجَ. لكنهُ صارَ إنساناً آخراً… جسدهُ نحيل، وصحته سيئة، وآثار التعذيب ظاهرة عبى جسده إلى الآن… يفكّر دائماً بالسجن، ويستذكر طرق التعذيب، ولسانه يرّدد: “آللهمّ فكْ أسرَ أخي وجميع المعتقلين… فذقتُ من الكأس وأعرف ماذا يعني الإعتقال في سجون النظام!”
ذهبَ حسين بعد فترة لزيارة أقاربنا في الرقة. ويا حسرتي، خرجَ من معتقلات الأسد إلى معتقل داعش! فمنذُ ذلك الحين، لم نعد نستطع رؤيته بتاتاً، لأنه حوصر ومُنِعَ من الخروج من مدينة الطبقة حيثُ ذهب.
زوجي كان متعلقاً بحسين كثيراً، أصبحَ طريحَ الفراش، حزناً عليه وعلى أخيه قتيبة. إلى أن انتقل إلى جوار ربّه بعد مرضٍ شديد أنهك جسدهُ النحيل. مات الأب قبل أن يرى ولديه، وكانت آخر كلماته “حسين وقتيبة”.
فراق زوجي كان كالسم في جسدي. آلمني، وكان صعباً للغاية. شعرتُ حينها أني وحيدة والهموم تملأ قلبي ولا أحد يشاركني فيها.
كان أبو حسين رفيق دربي نتقاسم الهموم، كان أباً حنوناً لأبنائنا الذين كانوا يملأون البيت من حولنا… كان وكانوا… كل ذلك أمسى ذكريات.
ولم تنتهِ فصول العذاب… بعد شهرين، ألقى الطيران الروسي صواريخه على مدارس بلدتنا حاس، وسُميّت بمجزرة الأقلام.
نالت الصواريخ من أجساد أطفالٍ أبرياء، ومعلّمين ضحّوا بأنفسهم لإفادة الأجيال القادمة.
انتشرت رائحة الموت وفاحَت في فمي… كان من بين الشهداء، حفيدتيّ بيسان وآية.
بيسان، تلك الزهرة فلذة كبد إبني خالد. رزقهُ الله بها بعد عشر سنوات من الزواج عن طريق عملية التلقيح الإصطناعي. وكانت قد وصلت الى الصف الرابع وحيدةً لوالديها. إبني وزوجته كانا يتفاءلان بوجودها، وكانت تغمر البيت فرحاً وضحكتها لا تفارق وجهها الناعم البريء.
تركتنا بيسان، وخلّفت وراءها الحزن والآلم. ذكراها على لسان كل كبير وصغير في القرية، لأنها كانت من أوائل المشاركين في المظاهرات ضد النظام، وكانت هتافاتها الثورية وهي طفلة صغيرة، تهز البلدة…
أين هي اليوم؟ ماتت.
أخذت معها إبنة عمها أحمد، آية رفيقة دربها في الحياة والموت. حفيدتاي بيسان وآية استشهدتا في مجزرة أودت بحياة أكثر من خمسين شخصاً.
بعد عشرة أيام، أصابتني فاجعة جديدة… خبر استشهاد إبني إبراهيم في قصفٍ للطيران. كان ابراهيم مقاتلاً في معارك حلب. هناك قضى، وهناك دُفن… وإلى اليوم، حسرة في قلبي، أني لم أُلقِ عليه نظرة الوداع الأخيرة. التي أعلم أنها لا تعود تنفع.
مات ابراهيم، ولديه أربعة أبناء، وكانت زوجته تنتظر مولودها الخامس… ها هي وقد وضعت مولودها، الذي لن ينادي “بابا” طوال عمره… ثمَّ عادت إلى عملها، كمدرّسة.
خلال أقل من شهرين فقدتُ زوجي وابني وحفيدتَي… وحسين لم أعد أستطع رؤيته وهو في أرضِ داعش، وقتيبة في معتقلات النظام.
الحياة صارت فارغة، لا طعم لها…
والآن أعيش أخرَ أيامي، محاولةً زرع الأمل في نفوس من تبقّى من أبنائي، وأنظر للأيتام من حولي بحسرة وانكسار.
أعيشُ كي أودّع أحبتي، فهل يأتي اليوم ويودّعونني فيه، ومَن تبقوا يعيشون لحظة انتصار الثورة؟
أُريدهم أن يبقوا وأن أموت، لا أن يموت أبنائي وأحفادي وأبقى!
بهذه الكلمات، انتهينا أنا وأُم حسين من جلستنا… والدموع تملأ وجوهنا.
وبوجهٍ عليه التجاعيد وقفت أُم حسين، وقالت لي: “أنا ذاهبة إلى قبر زوجي، تعالي معي”.
صفاء الفرحات، متزوجة من مدرّس، فصله النظام من عمله منذُ بداية الحراك، ولديهما ثلاثة أولاد. يسكنون جميعاً في غرفة واحدة، وتسعى صفاء للعمل من أجل تأمين مصروف العائلة ودفع علاج إبنها المريض.