أطفال مخيم اليرموك يتظاهرون بالطناجر الفارغة: بدنا فريكة بدنا خبز
(دمشق، سوريا) – “عندما كنا صغاراً، كانت جدتي تقول: مش عاجبكم الأكل، والله لنشتهي الخبز… طبعاً كنا أطفالاً حينها، لم نكن ندري ما تقصد.” قال عبد (31 عاماً) وهو متطوع في مؤسسة أهلية داخل المخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، وتابع حديثه “جدتي من الأشخاص الذين خرجوا من فلسطين، وتعرف تماماً معنى المأساة”. كانت نبوءة جدته تفاؤلية على حد تعبيره. جدته ليس لها علاقة بالسياسة، وبكل مرارة يضيف مازحاً “ربما تعتقد أن ستالين مازال على قيد الحياة، وكل مانحن به اليوم بسبب تشرشل”.
ودخلت في 21 كانون الثاني/ يناير أول قافلة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” إلى المخيم وتضمنت 139 حصة غذائية إلى المخيم، وذلك بعد عام من الحصار الخانق. وكانت الدفعة الثانية من المساعدات دخلت إلى المخيم في 30 كانون الثاني/ يناير، كما أعلن المرصد السوري يوم 31 كانون الثاني/ يناير عن توزيع الدفعة الثالثة من المساعدات في شارع راما قرب أحد مداخل المخيم.
وقال المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين كريس غونيس لوكالة الصحافة الفرنسية إن قافلة تابعة للاونروا على متنها 900 حصة غذائية دخلت الى مخيم اليرموك في دمشق موضحاً ان عدد الاشخاص المحتاجين لهذه المساعدات “يقدر بعشرات الآلاف، منهم 18 ألف فلسطيني بينهم نساء واطفال”. ويقول عبد إن “عدد شهداء الجوع والجفاف داخل المخيم قد بلغ حتى الان 55 حالة موثقة بالاسماء ..” فيما يتحدث المرصد السوري لحقوق الانسان عن وفاة 86 شخصاً في المخيم بسبب الحصار.
دخلت المعارضة المسلحة إلى مخيم اليرموك في الشهر الأخير من العام 2012، تبعه قصف طائرات حربية للحي ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى وخلّف أضراراً مادية كبيرة. أعقب القصف دعوات لإخلاء المخيم من سكانه تحت عنوان تطهيره من المسلحين. تجاوب أغلب سكان المخيم مع هذه الدعوات. يذكر أن المخيم كان يقطنه نحو 160 ألف لاجئ قبل آذار/ مارس 2011، لم يبقَ منهم إلّا نحو 16 ألفاً، بعد وضع الحواجز الأمنية عند مداخل المخيم ومخارجه، ومع تزايد الإجراءات وتشديد عمليات التدقيق والمراقبة.
وضع الشروط على إدخال المواد الغذائية والتشديدات التي حصلت، أدت لإغلاق المحال التجارية، وتوقف الأفران عن العمل لفقدان مادة الطحين مع مرور الأيام، ولم تتمكن الهيئة الوطنية لإغاثة الشعب الفلسطيني من إدخال المساعدات الغذائية وبينها نحو ستة أطنان من القمح إلى المخيم إلّا عن طريق وزارة المصالحة الوطنية. فكانت الناس تجلب حاجياتها ومستلزماتها اليومية من خضار وفواكه وخبز من منطقة الزاهرة المجاورة للحي.
وتكرر إغلاق طريق المخيم عدة مرات بسبب الاشتباكات التي كانت تدور بين القوات النظامية والمسلحين عند مدخل الحي، حيث كان الطريق مفتوحاً للسيارات الخاصة فقط دون العامة. استمر الوضع على حاله حتى آذار/ مارس 2013، حين اغلق الطريق بشكل كامل وبدأت الناس بالوقوف عند طابور التفتيش مع شروط جائرة وأشد صرامة من قبل، لجهة منع ادخال المواد الغذائية، فلا تتعدى ربطة خبز واحدة، وكرتونة بيض والقليل من الخضروات، مع مصادرة مازاد عن ذلك. ازدادت قسوة الاجراءات تجاه المواطنين الداخلين المخيم، حيث مُنعوا في كثير من الاحيان من ادخال الخبز والبيض والخضار، ومنع الطحين والمواد الاسعافية بدعوى أنه يتم بيعها للمعارضة المسلحة.
يقول طالب (28 عاماً) وهو ناشط إغاثي “بدأ الحصار فعلياً في السابع من رمضان، حيث كان عند الناس مخزون من المواد الغذائية يكفي لمدة اسبوعين فقط، وقامت الهيئة الاغاثية في المخيم بالمساعدة ما استطاعت”. ويضيف “الجهود الرامية لانقاذ المخيم، ووضع حد للمأساة تلاشت أدراج الرياح. لجأ الناس لفتح منازل الجيران وأخذ المؤن، وصنع الخبز من العدس، وبعد شهر رمضان ارتفعت الصيحات والمطالبة بفك الحصار. بعد اغلاق الحاجز بشكل كامل، منع أهالي الحي من الدخول والخروج إلا لحالات مرضية مستعصية وبعد التنسيق الأمني مع الجهات المختصة”.
مع تفاقم الوضع الانساني وتجاهل جميع نداءات الاستغاثة التي صدرت من المؤسسات الموجودة داخل المخيم، جاءت فتاوى بذبح القطط والكلاب لأكلها، وتفاقم الغضب والجوع. عندها بدأت المؤسسات الأهلية في الحي بالعمل على موضوع المناصرة، والضغط على صناع القرار من خلال الخروج بمظاهرات لإيصال أصواتهم، مطالبهم كانت فك الحصار وإدخال المواد الغذائية، فخرج شباب المخيم وطلاب المدارس والعجائز وذوي الاحتياجات الخاصة بسباق ركض “ماراتون الحصار… افتح بوابك يا يرموك” رافعين لافتات تندد بالحصار وتطالب بإدخال المساعدات للمخيم، كما خرج أطفاله من مدارسهم حاملين طناجر وصحون وملاعق فارغة و”ببور غاز” ورفعوا لافتات تقول بعفوية “بدنا خبز، بدنا كبسة، بدنا مفركة بطاطا”.
عبد، المتطوع لإغاثة أهالي المخيم يقول “نحن هنا في أمتار مربعة قليلة تسمى مخيم اليرموك، نحن حرفياً نعيش المجاعة، وفقدان الأمل والاحباط. رغيف الخبز على بعد أمتار قليلة منا، ومن السابع من رمضان لم نره ونسينا طعمه، بدأنا نبحث عن البديل، من قائمة الحبوب والبقول الأرخص والأكثر تواجداً، وكان العدس، فبدأنا طحن العدس على قدم وساق، وصنعنا الفلافل بالعدس، الخبز بالعدس، برازق بالعدس، كبة عدس، في النهاية الحياة تحولت لعدس”. ويضيف “قررنا ألا حياة مع اليأس، خرجنا بالملاعق والطناجر، الكاسات والصحون، ومن غير الأطفال يتشجع ليضرب على الطناجر الفارغة، فبيد كل طفل وعاء وملعقة، وبدأت الأوركسترا في الحي بحملة رغيف خبز”.
تقول شاديا وهي ناشطة اجتماعية واغاثية في الحي “هناك تلامذة يذهبون إلى المدرسة دون فطور، يعودون ولا يوجد شيء للأكل، هناك أطفال وعجائز ماتوا بسب نقص التغذية وكثرة اكل العدس، هناك نساء تلد وتموت، فيأتي الطفل بلا أم ولا حليب للرضاعة، وحتى الكثير من الأطفال توفوا بعد الولادة مباشرة لعدم وجود المواد الطبية”.
وتنهي حديثها “كل القيم الإنسانية تموت في المخيم، الناس في الخارج لا تتخيل معنى الحصار، هو شيء ربما لا يستطيع العقل البشري استيعابه، ربما يجب أن تعيشه لكي تشعر به، في كل يوم محاولة جديدة من الناس البسطاء هنا، لإيصال الصوت، لعل وعسى”.
أما بالنسبة لدور المؤسسات الأهلية فقد دفعت هي أيضا الثمن، وتحديدا خلال محاولات كسر الحصار وإدخال المواد الغذائية. “الهيئة الخيرية” قضى عدد من متطوعيها، ومؤسسة “جفرا” خسرت اثنين. منذ بدء الحصار اقتصر العمل على الصيدليات، والبرامج التربوية. الهيئة الخيرية لديها صيدلية مجانية للمدنيين تقوم يومياً بتوزيع الأدوية وفق سجلات نظامية، ومن قبل صيدلانية مختصة.
“الحياة تطحن الفقراء كعادتها”، يقول أبو حمد هذا الرجل الخمسيني الذي بدا عليه التعب وعلامات الشيخوخة المبكرة لضعف جسده وضمور عضلاته. أبو أحمد رب اسرة مكونة من ستة أشخاص يضيف بلوعة: “الفرن الالي يبعد حوالي 500 متر، الناس المحاصرون ليسوا بمؤيدين او معارضين هم فقراء، نسبة كبيرة منهم كفرت بالثورة والنظام والممانعة، كفرت بفلسطين وسوريا وكل القيم الانسانية السامية التي حل محلها شريعة الغاب مع الفراغ الأمني والحصار الحاصل”.