أخي وأولاده تحتَ الحصار
نساء مع أطفالهم اثناء زيارة الأقارب - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"مضى على تلك اللحظة، أكثر من أربع سنوات، وليس من وسيلة للإطمئنان على أخي وعائلته، سوى الإتصال وفي أكثر الأحيان عبرَ تطبيق الواتساب... ولم نلتقهم منذُ ذلك الحين."
لا يعرف البعض مدى المعاناة التي يعيشها الأهالي المحاصرون في مناطق مختلفة من سوريا. فالحياة ضمن مدينة تتعرّض للقصف بكافة أنواع الأسلحة أمر غاية بالصعوبة… وما يزيد الأمر سوءاً، الحصار المُشدَّد من قوات النظام من جهة، وفصائل المعارضة المسلّحة من جهة أُخرى.
بدأت الحكاية مع بداية العام 2012. أنا من ريف دمشق، وأذكر أنهُ بعد سيطرة المعارضة على عدد من مناطق الغوطة الشرقية، في الأشهر الأولى لم يكن في البدء الأمر مستحيلاً، أن تدخل وتخرج إلى تلكَ المناطق … بالرغم من الصعوبات.
واصلت حافلات النقل العمومي، عملها مع تغييرات في الطرقات التي تسلكها. كنا نتجنّب قدر الإمكان المرور على حواجز النظام. وإن حصل ذلك، وسألنا العناصر عن وجهتنا، كنا نخبرهم عن وجهة مغايرة لمقصدنا، وذلك لأننا ذاهبون إلى مناطق تتواجد فيها المعارضة، في ما نقول أننا ذاهبون إلى مناطق فيها الجيش!
كان يستغرق الدخول والخروج، عدة ساعات. لكن لم يدم ذاك الوضع طويلاً، وانقطعت الطرقات تماماً… فبعد أشهر سارعت القوات النظامية التابعة لبشار الأسد إلى تطويق معظم مناطق الغوطة الشرقية، وذلك في آواخر العام 2012.
حينها، قامَ النظام بحشد العناصر والآليات العسكرية في محيط مدينتي. ونشرَ العديد من الحواجز، ومنع دخول وخروج الناس تماماً. كما منع دخول المواد الغذائية والمحروقات… وكثّف عمليات القصف الممنهج على الأحياء السكنية، بغرض استعادة السيطرة عليها.
كنتُ سعيدةَ الحظ، كَوني تمكّنت من الخروج من الغوطة قبل بدء الحملة الشرسة عليها بيوم واحد. قررتُ تركَ مدينتي والهرب إلى دمشق.
أذكرُ أنّ يوم الرحيل، كان ممطراً. واصطحبني أخي عمر إلى كاراج انطلاق السيارات نحو العاصمة. ودّعته بقلبٍ محترق، ولم أره منذُ ذلك الحين… كانت تلكَ المرة الأخيرة التي ألمس فيها يديه، وأُعانقهُ بشدّة، وأُوصيه أن ينتبه على أولاده.
في لحظة الوداع، كنتُ قد لوّحت بيدي لـ عمر من خلف زجاج السيارة، التي تعج برذاذ المطر، وكانتا عيناي تسترقان نظرةً أخيرة إلى مدينتي… كانت تلك اللحظات خزّاناً من الصور، أستدعيها كلما دقَّ قلبي بالحنين…
شققتُ طريقي إلى دمشق، وبعد أيام بدأت عملية عسكرية عنيفة على مدينتي…
مضى على تلك اللحظة، أكثر من أربع سنوات، وليس من وسيلة للإطمئنان على أخي وعائلته، سوى الإتصال وفي أكثر الأحيان عبرَ تطبيق الواتساب… ولم نلتقهم منذُ ذلك الحين.
نزح الكثير من الأهالي إلى خارج الغوطة، أمّا عمر فصارَ لديه خمسة أطفال أكبرهم يبلغ من العمر 12 عاماً. خاف أخي من الذهاب إلى دمشق، لأنها تعج بالحواجز والمُخبرين… كما من الصعب عليه استئجار منزلٍ فيها، بعد غلاء الإيجارات، وصعوبة الحصول على الموافقات الأمنية، وهي شرط في إبرام أي عقد إيجار في دمشق!
كانت قد بدأت منذُ ذلك الحين صعوبة التواصل مع أخي عمر وعائلته، الذين باتوا يقضون ليلهم ونهارهم مع عوائل كثيرة في الملاجئ.
وكان عمر يسترق لحظات هدوء المعارك، ليصعد على عجلٍ إلى سطح البناء كي يتمكّن من التقاط شبكة الهاتف والإتصال بي لنطمئن عليه… ثمَّ يعاود النزول إلى الملجأ.
ونتيجة مكوثه وأولاده في الملجأ لفترات طويلة، أو عدم تمكنهم من الخروج من المنزل حين يكونون فيه، تغيّر لون جلدهم إلى الأبيض تقريباً، لعدم تعرضهم لأشعة الشمس لفترات طويلة.
تمرُّ الأيام على أخي وعائلته وسط المعارك بين الجانبين… النظام والمعارضة. تهدأ المعارك قليلاً على الجبهات، لكنّ الطيران لا يغادر السماء…قلبي يحترق على أولاده، وأخي نادم لأنهُ لم يخرج مع والدي إلى دمشق. لكنّ ظروفه لم تسمح بذلك كما قلت، وصارت تزيد سوءً في الحصار.
تعبتْ عيون أولاد أخي من كثرة البكاء… يقضون ليالٍ عديدة بلا نوم إلا بعد عناء… العتمة تلفهم من كل جانب، بلا كهرباء… والبرد الشديد يتسلل إلى أجسادهم الصغيرة ويؤلم عظامهم، حتى لو تكدّست عليهم الملابس… لا كهرباء لا محروقات… ورائحة العفونة في جدران الملاجئ تقتل الروح!
أيقن المدنيون في الغوطة، أنَّ البقاء في الملاجئ ليس حلاً… عادوا إلى منازلهم، وصار كل مَن يمتلك منزلاً في الطوابق العليا، يبحث عن منزلٍ آخَر أكثرَ أماناً في طوابقٍ سفلى.
وهذا ما فعلة أخي، حيثُ انتقل إلى منزل يُعتبر أقل خطورة…
لكن ظهرت بعدها مشكلة عدم توفر المواد الغذائية والدواء… لتُضاف إلى مشكلة عدم توفر الكهرباء والمحروقات!
صارَ سعر كيلو السكر 2000 ليرة سورية، وكيلو البندورة 500 ليرة… أي عشرة أضعاف عما كانت عليه في العام 2012.
صارَ الكثيرون ومن بينهم أخي يشترون البندورة والبطاطا، بالحبّة الواحدة!
كنا لم نرَ وجه أخي لفترة طويلة، ثمّ تمكنا من رؤيته في الفيديو عبر برنامج سكايب… وتفاجئنا به هو وعائلته، وقد تغيّرت أشكالهم كثيراً! أجساد نحيلة هزيلة ووجوه شديدة الإصفرار من قلة الطعام…
حين نسأل أخي عن المساعدات الإنسانية التي صارت تدخل إلى المدينة عن طريق الهلال الأحمر السوري، يكون جوابه أنّ قلة مَن تحصل عليها، وأحياناً، لا يمكن الإستفادة من تلك المساعدات، فإمّا أن تكون ألعاب أطفال أو مواد غذائية منتهية الصلاحية!
وفي جميع الأحوال، لا مساعدة تكفي الحد الأدني من احتياجات الناس في الغوطة.
حصار، قصف، موت، لا كهرباء، لا محروقات، لا مواد غذائية… ناس تعيش من قلة الموت، كما يُقال…
أُريد أخي وأولاده معي… أولاد تولد وتكبر في الحرب… الحياة تستمر نعم، لكنّ الحرب تجعل منها حياةً برسم الموت دوماً. فتباً للحرب… وتباً للحصار.
مرام سعد (24 عاماً) ولدت في إحدى مدن الغوطة الشرقية في ريف دمشق. متطوعة في الهلال الأحمر منذ 6 سنوات. خلال الثورة كانت متظاهرة ومسعفة ميدانية وناشطة إعلامية من العاصمة دمشق، وعملت مع عدة وكالات إخبارية محلية. مرّت بأوقات صعبة خلال إسعاف المصابين، أعنفها وفاة والدها بين يديها عام 2014 بعد نزوحهم إلى مدينة دمشق.