أحرقوا بيتي ولكن الثورة لن تنطفئ
لم يكن النظام يعني لي شيئاً، ولم أكن اهتم لأمره يوماً. رغم أنني أعلم أنه نظام فاسق وظالم ومجرم. أخجل من نفسي وألومها كوني بعمر الخامسة والخمسين وكوني جامعية، ربما كان علي أن أكون أكثر وعياً. فرغم ما عشناه وسمعناه عن أحداث الثمانينات (مواجهة النظام السور لجماعة الإخوان المسلمين في مدينة حماه).
لم أكن أكره النظام إلى هذا الحد. أي حد؟ الحد الذي بدأ فيه أبناء مدينتي إدلب بالمظاهرات السلمية، بأياديهم المرفوعة، حاملين أغصان الزيتون، وهتافاتهم التي دخلت مسامعي وقلبي في ذات الوقت “الشعب يريد اسقاط النظام” و “سوريا لينا وما هي لبيت الاسد… عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد”. و كان ذلك في شهر أبريل/نيسان عام 2011.
كان ردُ النظام قاسياً عنيفاً ومصحوباَ بالرصاص والاعتقال، وبدأ يتزايد أعداد الشهداء والجرحى في بلدي. حينها، وفقط حينها، أدركت لماذا يجب أن يسقط هذا النظام. وقررت أنه يتوجب علي أن أساعد وأشارك في ثورة شعبي قدر استطاعتي. فشاركتهم مظاهراتهم وهتافاتهم، وزرت أسر الشهداء والمعتقلين.
في المدرسة، حيث كنت أدرّس في إحدى الثانويات في مدينة إدلب، وبدون أن أشعر تغيرت نظرتي للطالبات. وأصبحت أميل كل الميل للمعارضات منهن. أذكر يوماً كنّا في الصفّ وسمعنا أصوات المتظاهرين وهتافاتهم، تركت الطالبات المقاعد وتركت السبورة وركضنا إلى النوافذ. يومها البنات المعارضات كنّ يقتربن منّي، وبصوت منخفض يحاولن اسماعي “الله يحميهن…الله يكون معن” كن يردن بذلك اخباري بأنهن مع الثورة مثلي. أما البنات المؤيدات للنظام فكنّ يرمقنني بنظرات غريبة، بينما الدموع تنهمر على وجنتيّ فرحاً بالأحرار المتظاهرين وخوفاً عليهم في نفس الوقت.
مع بداية ظهور الجيش الحر في مدينتي، ووقتها كان النظام مازال مسيطراً عليها، بحواجزه، ومعتقلاته، وشبيحته، كنت اجتمع وصديقاتي المعارضات لإعداد كميات كبيرة من الطعام لنقدمها للثوار. وكانت خالتي رحمها الله ثرية تمدني بالمال لشراء المواد اللازمة. كنا ندلل الطعام ونغدق عليه من اللحوم والمكسرات والزبدة. وطبعا لم نكن ننسى المخللات والحلويات، كان هدفنا أن نقدم شيئا لهؤلاء الشباب الأحرار، ونشعرهم أننا معهم وإلى صفهم. وأثناء إعداد الطعام ننشد أغاني الثورة ونهتف بهتافاتها، نزغرد بسرور عظيم، وعندما نلتقي بهم في مظاهرة المساء يشكروننا. أخبرني أحدهم ذات مرة بأنه لم يتذوق أطيب من هذا الطعام،. يا الهي كم فرحت وقتها، ومن أعماق قلبي كنت أقول لهم “انشالله بالهنا… انشالله بالنصر… انشالله بسقوط بشار الطاغية”.
كنت سعيدة بهذه الفترة، ومتفائلة بالنصر، وخاصة اننا بدأنا نسمع تصريحات من رجال السياسة في أميركا وبريطانيا وفرنسا أن أيام الأسد باتت معدودة، وأن الأسد فقد الشرعية وعليه ان يرحل.
في كانون الثاني/يناير عام 2012 بدأت تتسرب من الأفرع الأمنية قوائم بأسماء المطلوبين. واسمي تكرر في عدة قوائم لعدة أفرع أمنية. تهمتي كانت تصوير المظاهرات والاتصال بالقنوات الاعلامية المغرضة كقناة وصال وغيرها. رغم أنني أكره هذه القنوات، ولا أشاهدها، كما أنني ضعيفة بالتصوير والكمبيوتر. بدأ الخوف يتسرّب الى نفسي، ويزداد عندما كنت أسمع نصائح بعض الصديقات “ديري بالك غادة، خذي حذرك غادة”.
في هذه الفترة هربت أختي ميادة إلى تركيا، تاركة وظيفتها وبيتها وكل شيء. وبقيت أنا خائفة انتظر الفرج من رب العالمين. استمريت على هذه الحال ما بين الخوف والأمل، حتى بدأ الاعلام يتحدث عن حشود كبيرة يعدها النظام للتخلص من المسلحين والإرهابيين في مدينة ادلب. وكانت هذه الأخبار قبل ثلاثة أيام من دخول جيش النظام إلى مدينتي. تخلّصت من الشالات والقبعات الصوفية التي كنا نحيكها وهي تمثل علم الثورة، لنرتديها في المظاهرات ونوزعها على المتظاهرين وخاصة الصحفيين والاعلاميين منهم. تخلّصت من الأعلام في منزلي، وكل ما يمتّ للثورة بصلة، وفتّشت عن اماكن جداً سرية، لأخفي الحلي الذهبية والنقود التي في حوزتي، فجيش النظام معروف بسرقاته.
وفعلا في فجر 10 آذار/مارس 2012، استيقظنا على أصوات الانفجارات والرصاص بشكل كبير وعنيف ومخيف. وانقطعت الاتصالات والكهرباء والماء، ولم يكن بوسعنا غير الصلاة والدعاء. مددت رأسي وبشكل حذر من النافذة، رأيتهم… شباب الجيش الحر متسلحين ببنادق د قديمة، وأملهم بالله فقط. يصرخون بأصواتهم الرائعة والحبيبة الى قلبي “الله اكبر ..الله اكبر”. عملت لهم على عجل بعض سندويتشات الجبنة والزعتر وإبريق من الشاي. أظنه آخر طعام تناولوه رحمة الله عليهم جميعاً، لأنه بعد ساعات سمعنا بأن الجيش يكوم جثث الشهداء في ساحة الجامع المقابل للبيت الذي كنت مختبئة فيه حينها. كان عدد الشهداء كبيراً جداً، وعدد الجرحى أكبر، أما أعداد المعتقلين، فجميع الرجال من هم دون الخمسين تم اعتقالهم، وجمعوهم في المدارس وحققوا معهم واستغرق هذا التحقيق والاعتقال مدة شهر وتم الإفراج عن الأكثرية، وغاب الباقون حتى هذه اللحظة.
سيطر النظام على إدلب من جديد، والحمد لله مرّت على خير ولم أكن من بين الشهداء ولا المعتقلين. ولكن تفاجأت عندما عدت إلى بيتي لأجدهم قد أحرقوا البيت بكل ما فيه من أشياء وذكريات.فداك بيتي يا ثورتي فداكم كل شيء يا شرفاء بلدي … والشعب يريد اسقاط النظام.
غادة السيد عيسى (59 عاماً) من ادلب، تقيم حالياً في غازي عنتاب في تركيا. تخرجت من جامعة حلب كلية العلوم قسم الفيزياء و الكيمياء. أم لابنة واحدة.