أب خرج ولم يعُد وأم تتسوّل لإطعام 3 أبناء
في لبنان طفل يجلس على طريق قرب مخيم للاجئين السوريين - تصوير أحمد الخليل
"في يوم ما سوف تنتهي الحرب، سنكون مشغولين بشيء آخر، سنتذكر مع عائلتنا وأصدقائنا كم كانت الظروف صعبة؟ كم قست علينا الحياة؟ وكم سلبت منا أشياء ودمّرت أحلامنا؟ ولكن ماذا عن أطفال الحرب؟ "
إلى جانب طريق في حي محيي الدين بن عربي الشعبي، تجلس فاطمة (24 عاماً) مع طفلها الذي لم يتجاوز عمره أربع سنوات. تطلب المساعدة من المارة بحياء وخجل، وربما بكبرياء.
يحاول طفلها اللعب، تلبية لرغبته الفطرية كطفل يكوّن شخصيته من تصرفات غالباً ما يقلّد بها أمه. وهي تسحبه بارتباك ليجلس وتطلب منه عدم الحراك. لم تمانع فاطمة جلوسي جانبها والتحدث عن قصتها كاملة.
هي تريد أن تتكلم، وتطلب عدم مقاطعتها. كامرأة تحاول أن تحكي للعالم أنها ليست كما يرونها الآن، في حال من الفقر والعوز والتشرّد والضياع الذي طال شرائح كبيرة من الشعب السوري، جراء الحرب المدمّرة التي فتكت بها.
كادت الغصة تخنق صوتها، وقالت بخجل شديد: “أنا فتاة في ربيع العمر من ريف حمص الشرقي، لديّ ثلاثة أطفال. أحلم أنهم عندما يكبرون سيحققون أحلامي وأحلام أبيهم الذي اختفى قبل 3 سنوات، ولا نعرف عنه شيئا”ً.
وتضيف فاطمة: “أنا من عائلة متواضعة، تزوّجت من الشاب الذي أحببته في قريتي. وقرّرنا الذهاب للعيش في منطقة مخيم اليرموك في ريف دمشق. أنجبت منه ثلاثة أطفال. حين بدأت الحرب، التهمت المكان الذي نقطنه. قررنا الانتقال للعيش في حي آمن لا تصله قذائف الموت”. وتتابع: “كنا نتنقل من مكان إلى آخر، ونختبئ لساعات طوال. ونعبر مزارع ذات أشجار كثيفة وترعات مليئة بالحشرات، ما عرّض أطفالي لمخاطر صحية. بدأ زوجي العمل على سيارة لنقل الخضار والفواكه كي يؤمن ما يكفي احتياجاتنا”.
وتضيف: “وهكذا كان كل يوم يكدّ على رزق حلال، ولا يكاد يعود إلى البيت لأحمد الله أنه ولد من جديد لشدّة القصف والخطر الذي كان يحيط به. ولكن في أحد الأيام السوداء قبل 3 سنوات وذات صباح خرج ولم يعُد. اختفى هو وسيارته من دون أي أثر له”.
فاطمة، يبقى لديها بصيص أمل أنه من خلال نشر مأساة اختفائه قد يعرف أحدهم عنه شيئاً ويوفر رأس خيط أبيض لقصتها السوداء.
وتشرح فاطمة: “بحثتُ عنه في كل مكان دون فائدة، فقدتُ القدرة على الكلام. فالحياة ضاقت عليّ الى حد اليأس، وجدتُ نفسي وحيدة في جحيم بائس. لا يمكنني فعل شيء مع ثلاثة أطفال صغار بلا مأوى ولا مورد، ولا معيل ولا معين”.
وتوضح: “لا يمكنني ترك أطفالي مع أحد للذهاب لعمل مأجور أقيت به أفواههم الجائعة والعطشى وعيونهم لرؤية أبيهم المفقود. رحل جلّ مَن أعرفهم؛ بعضهم طلباً للأمن والسلامة، والبعض مات، وآخرون يقبعون في السجون. ومن بقوا أنهكتهم الحرب، لكنهم ببساطة لا يرغبون في أن يصبحوا لاجئين، بل يفضلون البقاء هنا حتى آخر رمق.”
وعن يومياتها تضيف فاطمة:” أقطع مسافة تتجاوز ثلاث ساعات لأصل الى هنا، وأطلب المساعدة من الخيّرين الكثر. 4 أيام في اشهر، لأعود لمنطقة خربة الورد التي أقطنها. هناك يعيش النازحون في تلك الخيام في ظروف صعبة، فلا يتوفر فيها أدنى مقومات الحياة وحتى الماء يتم شراؤه بأسعار مرتفعة لا تلائم ميزانيات النازحين الضئيلة.”
هذه حال العائلات النازحة من حمص وحماة في وسط سوريا، ومن غوطة دمشق الشرقية. فبعد رحلتي لجوء ونزوح طويلتين، هرباً من القصف والدمار لمناطقهم، حطّ بهم الرحال على الحدود جنوبي البلاد، في مخيمات عشوائية يقيمون فيها وسط ظروف قاسية.
هذه المخيمات عشوائية ومعظم ساكنيها هم من الأطفال والنساء الذين فرّوا من القصف والدمار الذي استهدف الغوطة الشرقية في ريف دمشق وبعض المناطق في حماة وحمص. هناك نصب النازحون خيامهم بعيداً من بلداتهم وقراهم التي يأملون بالعودة إليها.
تعوّدوا على الترحال والانتظار، لكن يبدو أنه ما من بارقة أمل، حيث تبدو هذه المخيمات العشوائية خارج حسابات الجميع. مخيمات منسية من قبل المنظمات الإنسانية، فلا يصلها من المساعدات إلا القليل وبشكل نادر.
وتختم فاطمة قصتها بالقول: أعيش الآن في خيمة أدفع أجرتها 2500 ليرة كل شهر لصاحب الأرض، ويسكن هناك الكثير من المهجّرين وبين ما تبقى من أسرهم المشتتة وداخل تلك الأكواخ والخيم المشلّعة آلاف القصص والمآسي. لم أفكر يوماً بسوء الأوضاع في المخيم. مهما كان الوضع سيئاً فليس أسواً مما رأيناه ومما أشعر به…”
تخنقها دموعها عندما تقول: أطبقت أسناني على الحديد كي لا أطلب المساعدة من أحد، ولكن تلك الحرب دمّرت أحلامنا وأحباءنا، وأسقطت كل ما هو جميل ليبقى السواد هو لون حياتنا. لم يبقَ لديّ أمل سوى أطفالي أرسلهم الى المدرسة، وأحرص على استمرار تعليمهم كي لا يحتاجوا لأحد.”
في يوم ما سوف تنتهي الحرب، سنكون مشغولين بشيء آخر، سنتذكر مع عائلتنا وأصدقائنا كم كانت الظروف صعبة؟ كم قست علينا الحياة؟ وكم سلبت منا أشياء ودمّرت أحلامنا؟ ولكن ماذا عن أطفال الحرب؟ وماذا عن ذلك الطفل الذي تربّى على صوت الدمار وعلى خسارة أغلى ما يملك وعن براءته وعزة نفسه؟
ندى خليل (29 عاما) صحافية سورية من دمشق.