أبي الذي لا يكف عن الاختفاء

“أخذوه” يقول أخي عبدالرحمن (20 عاماً) هو المريض منذ ولادته بمرض التوحد. كان يقصد والدي.

بدأت معاناة أبي مع النظام قبل 12 سنة. كان يجتمع مع أصدقائه عند شخص يدعى الشيخ (م.ح)، كانوا في اجتماعاتهم يتحادثون عمّا قال الله وما قال رسوله، وبسبب ذلك أصبح يزور وبشكل دوري، الأفرع الأمنية حيث يخضع للتحقيق. يخرج بعد التحقيق معه، ويظل مصرآ على حضور الاجتماعات رغم كل ذلك.

 

امرأة وأطفالها تنتظر وسيلة نقل في حي الفردوس في حلب. تصوير حسام كويفاتية

في العام 2007،  قرر أبي السفر إلى اليونان للعمل، كنت آنذاك في الصف الخامس، وفي نفس الشهر الذي سافر فيه أبي، اعتقلوا أصدقاءه والشيخ (م.ح) بتهمة أنهم ينتمون إلى الجماعة السلفية. حينها شعر أبي بالخوف من الاعتقال إذا عاد لبلده، مكث سنوات بعيدآ عنا وعن وطنه، وفي كل صيف نزوره ونبقى عنده أربعة أشهر فقط ثم نعود و الحزن يعتصر قلوبنا.

 

في منتصف العام 2011  ضاق أبي ذرعآ من وضع الغربة والفراق. قرر العودة مهما كانت العواقب. كانت أحداث ثورتنا المجيدة في ادلب تكبر وتتطور، عمّت الشوارع المظاهرات والهتافات المنددة بالنظام. شارك أبي بتلك المظاهرات السلمية، التي كان يشعل نارها في دوار معرة مصرين وبالقرب من القصر العدلي. كان أبي يحكي لنا عما يحدث معهم في تحركاتهم. في إحدى المظاهرات المتوجهة إلى القصر العدلي عبر المشفى الوطني، قابلهم أمن النظام وشبيحته بالغاز المسيل للدموع لتفرقتهم، وقام أحد الممرضين العاملين في المشفى الوطني برمي الكمامات للمتظاهرين، الذين أكملوا طريقهم.

 

يوم 11 آذار/مارس 2012، اقتحم جيش النظام مدينة إدلب، وأصرّ أبي على البقاء فيها رافضآ تركها للشبيحة وأعوانهم. مكثنا في إدلب نعاني الأمرّين من ظلم النظام وشبيحته. فكانت الأولوية للشبيحة من غاز وخبز ومواد غذائية، وقد تعرض بيتنا للتفتيش ثلاث مرات بحجة وجود المسلحين عندنا.

في 15 تشرين الأول/أوكتوبر 2012، ذهب أبي إلى مزرعتنا لقطاف الرمان، وإذا بحاجز لأهالي كفرية الشيعية على الاوتستراد يخطف أبي لمدة 21 يوماً، ألحقوا به الكثير من الأذى والتجريح، وأخذوا منا فدية قدرها مئة ألف ليرة سورية لإطلاق سراحه. كانت تلك المرة الثانية التي يسلم منها أبي ويعود إلينا.

 

الأمر لم ينتهِ هنا ففي 10 حزيران/يونيو 2013،  ذهب أبي بالطعام لأبيه المقعد، على أن يذهب بعدها لصلاة العصر كعادته. أصبحت الساعة التاسعة مساءً ولم يعد أبي، اتصلت بهاتفه النقال حتى انقطع الاتصال، عاودت الاتصال فإذا به خارج التغطية. هنا شعرنا بالقلق الشديد، وبدأنا بالسؤال عنه حتى عرفنا أن حاجز دوار معرة مصرين قد اعتقله من أمام مسجد خالد بن الوليد. وأصبح والدي في سجن أمن الدولة. سارعت أمي لتزوره، وأخذت أخي عبد الرحمن معها.

 

استطاعت أمي أن تقابل أبي، همس في أذنها وسألها: “ماذا تحملين من المال يا عبير؟”

ردت بغصّة: “ليس لدي سوى خمسمائة ليرة، وأحضرت لك ما تأكله وتلبسه، لكنهم قالوا لي أنهم هم سيعطونك إياهم”.

أخذ أبي النقود.

أخي عبد الرحمن صرخ وقال لأبي: “أنا لدي بعض النقود”. فأخرج مئة ليرة من جيبه وأعطاها لأبيه.

دمعت عينا أبي وقال له: “أتركها لك”. ولكن أخي قد أصر.

 

انتهت الزيارة وعادت أمي والدموع تنهمر على وجنتيها. بعد اسبوع عادت أمي لتزور أبي، قالوا لها اذهبي الآن، سيلحق بك. لكنه لم يأتِ. عرفنا من أحد الأشخاص أنه تم نقله إلى الأمن العسكري ومن الأمن العسكري إلى دمشق، ومن بعدها انقطعت الأخبار عنه، ومنذ عشرة أشهر خرج شخص من سجن عدرا، فسارعت أمي تسأل كعادتها كل شخص فك أسره وسألته: “أسمعت خبرآ عن زوجي؟

أخبرها أن شخصآ كان معه في سجن عدرا قد نقل من سجن فلسطين إلى عدرا مجددآ، وقد كان معتقلآ معه في سجن فلسطين.

هذه كانت آخر الأخبار التي سمعناها عن أبي.

متى سأستيقظ وأرى ابتسامة أمي على وجهها بدلآ من أن أجد الدموع تثقل وسادتها.

اسأل الله أن يرده إلينا حياً سالماً، ويجمعنا معه بأقرب وقت.

وبقي سؤالي الأخير لأخي عبدالرحمن: أين بابا؟ أخذوه، فمتى يعيدونه؟

 

مزينة محمد (19 عاماً) كانت في سنتها الجامعية الأولى في إدلب، وبعد أن سيطرت عليها المعارضة توقفت عن الدراسة. عانى والدها طويلاً بسبب النظام واعتقل عدّة مرات ومازال في سجونه منذ عامين،  ولا تعرف العائلة عنه أية معلومة.