يومي الأخير في إدلب
الساعة 12 بعد منتصف ليلة السبت الأحد 21-22 كانون الثاني/يناير 2012. تلك الليلة غفوت كعادتي قبل الجميع. لا أعرف كم كانت فترة نومي ساعتين أو أكثر. استيقظت على ضوضاء تملأ أركان منزلي الهادئ. أحدهم مدجج بالسلاح فتح باب غرفتي وأغلقه، يبدو أنه فوجئ بي. نهضت من الفراش مذعورة. ماذا يحدث؟ من هذا الغريب الذي فتح باب مخدع سيدة دون استئذان؟ لم أعِ شيئا تناولت غطاء صلاتي، سترت رأسي وخرجت هلعة، ويا لهول مارأيت!
أكثر من 15 شبيحاً (في إشارة إلى المسلحين التابعين أو المؤيدين للنظام) بعتادهم العسكري الكامل في بيتي. كانوا يعيثون فسادا بكل زاوية من الزوايا، رمقتهم بنظرة خوف وكره، لم أجرؤ على نظرة التحدي، رأيت زوجي وأولادي بين أيديهم. كان الحقد بادياً في عيونهم، يخرج شراراً يفتك بقلبي الذي انهكه الخوف والرعب. كانوا قساة، كانوا أشراراً، كانوا شيئا لايوصف. أحدهم كان يهدد ابني اسماعيل (13عاماً) ويقسو عليه بالكلام. رأيت ابني يرتجف وقد اصفرّ وجهه أمام ذاك الوحش الذي لايرحم. اقتربت وطلبت منه أن يعامله برفق، أخرجني من الغرفة وأغلق الباب. ماذا يمكنني أن أفعل. آنذاك كان اسماعيل قد أتمّ مرحلة الإعدادية بتفوق، طلب من الأقارب أن تكون هديتهم له مالية، لأنه يرغب بشراء لابتوب خاص به. وكان له ما أراد. لم يمضِ على شرائه عدة أيام، ولم تكتمل فرحته به. سرقوه مع اثنين غيره بحجة التفتيش. موبايله الجديد شوهد بعد عدة أيام بيد شبيح يدعى سومر يرابط في حواجز شارع القصور. سرقوا كل ماوصلت اليه أيديهم، كاميرات، موبايلات، لابتوبات (أجهزة كمبيوتر محمول). أحضروا كيساً كبيراً، وأخذوا يملأونه بما تيسر لهم مما خفّ حمله وغلا ثمنه.
لوانتهت القصة بما أخذوا، لو انتهت القصة بإهاناتهم لنا، ولكن لم يخرجوا من المنزل إلّا وكان فارغاً من أهله وتركوني وحدي. ساقوا أمامهم زوجي وابنتي (20 عاماً) واسماعيل الصغير. هددني وحذروني من استعمال الهاتف. ماذا أقول بعد ذلك تغص الكلمات مع العبرات في جوفي، وأختنق كلما تذكرت، وبت وحيدة، وما أقساها من وحدة لا أعرف مصير عائلتي!
كان الشتاء، والحرارة منخفضة جداً. كنت أبكي وأبكي وأبكي. تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، بدأت سيناريوهات اعتقال ابراهيم ابني الأكبر تلوح في ذاكرتي، وأساليب تعذيبه تتراءى أمام عيني. سلّمت أمري وعائلتي إلى الله، رحت أصلّي وأقرأ القرآن، فليس لي من ملجأ سواه.
لاحت تباشير الفجر لي بصعوبة، وما أقساها من ليلة تلك الليلة. لن أنساها لن أنسى شيئا منها، وما زلت أبكي بحرقة كلما لاحت لي ذكراها، وأقول يا رب.
في الصباح الباكر جداً كنت أتصل بأخواتي وأبكي، لم أستطع أن أتكلم كنت أبكي فقط،الآن تخنقني غصة، وزفرة، ودموع، كيف انتهى ذلك الكابوس؟ لا أدري، المهم أنه انتهى. بعد معاناة يومين أقر الله عيني برؤيتهم. بعد تلك الحادثة بدأنا حياة جديدة، في غربة قسرية فرضت علينا. في اليوم الثاني لخروجهم من المعتقل حزمنا أمتعتنا، ودعنا بيتنا الهادئ، وخرجنا إلى المجهول. ودّعنا ذكرياتنا بحلوها ومرها 25 عاماً تتراكم ذكرياتنا هنا، فرحنا، حزننا، أعيادنا. نظرنا خلفنا، وعدنا بيتنا بالعودة، لنبدأ حياة التشرد والشقاء والضياع في أرض ليست أرضنا، وفي وطن ليس وطننا مع أناس ليسوا أهلنا.
حفر ذلك التاريخ في قلوبنا أخاديد حزن وقهر وضياع إنه 24 كانون الثاني/يناير 2012، ولكن، سنرجع يوما”. ولنقل: لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون. اللهم نعوذ بك من قهر يؤلمنا ومن هم يحزننا ومن فكر يقلقنا، اللهم كن لنا وكن معنا واجعلنا بك أقوى.
كفاح قباني (48 عاماً) من مدينة إدلب، أم لثلاثة أبناء وجدّة لطفلة، نشطت منذ بداية الحراك المدني عبر التظاهرات والطبخ للثوار ومساعدتهم، إضافة لتحميل أفلام المظاهرات المصورة ونشرها مشاركتها عبر شبكة الأنترنت. اعتقلت قوات النظم ابنها الأكبر الذي تعرّض لتعذيب شديد. تعيش كفاح قباني حالياً في جنوب تركيا مع عائلتها.