يومان في مدينة الرستن: الثورة في عيون أطبائها


Homs

رزان زيتونة

بعد أن حرم السوريون من التداوي في مشافيهم العامة والخاصة، لم يبق لهم سوى المشافي الميدانية، قليلة العدد وسيئة التجهيز، والمعرضة للمداهمة والاعتقال، عدَة وكوادر، في أية لحظة…

في المشفى الميداني عالم مصغر عن الموت الحاضر خارج جدرانه في كل دقيقة. وأشخاص يحاولون التحايل على الموت، متنقلين من مشفى إلى آخر، من مدينة إلى أخرى، شهوداً على هول المعاناة التي يعيشها آلاف السوريين يومياً. يسعفون الطفل الصغير والجندي المنشق والأسير، بما قل من أدوات وأدوية، ومن غير تمييز أو انحياز، إلا لمن تكون حظوظه في الحياة أكثر.

نسبة الأطباء المنخرطين في الثورة قليلة جداً مقارنة بتعدادهم العام. معظمهم من الشبان الذين لم ينهوا فترة اختصاصهم بعد. وبسبب قلة عددهم يضطر واحدهم للقيام بكل شيء بغض النظر عن اختصاصه.

فداء، أحد الأطباء الميدانيين، اختصاص جراحة عامة سنة أخيرة، أوقف دراسته وانضم إلى صفوف الثورة منذ بداياتها، يروي شهادته عن يومين في مدينة الرستن، إحدى المدن الكثيرة التي زارها وزملاؤه لإبعاد شبح الموت عن ضحايا القصف والقنص.

في الطريق إلى الرستن

 كنا ثلاثة أطباء انطلقنا من دمشق بصحبة أحد أبناء مدينة الرستن، وهو محام تحول إلى الكفاح المسلح بعد مقتل العديد من أفراد عائلته. من خبرتنا في الدخول والخروج إلى المناطق الساخنة، أصبحنا نعلم أن إبعادنا عن النوافذ في السيارة، يعني أن الطريق لن يكون سهلاً. هذا اقتضى مني، وباعتباري قائد الفريق، أن أحاول التخفيف عن زملائي بالكلام والممازحة طيلة الوقت، بينما بيني وبين نفسي كنت أفكر بشيء واحد، أنني استشهدت، ولا أكف عن تذكر والدتي الثكلى.

قبيل وصولنا بدأ اطلاق النار بشكل كثيف بالقرب منا. علمت فيما بعد أن الشباب كانوا يحاولون إلهاء الحاجز الضخم المدجج بالدبابات والمدرعات كي نتمكن من المرور بأمان.

في المشفى الميداني

وصلنا إلى المشفى الميداني، وهو ككل المشافي المماثلة، عبارة عن منزل، الصالون لاستقبال المرضى، وهناك بطانية معلقة في منتصفه لتفصل بين مكان جلوس الكادر الطبي وبين مايفترض أنه غرفة الإسعاف.

المشفى الميداني مكان بائس جداً، لا يحمل من إسمه شيء. يمكن أن نطلق عليه أية تسمية إلا تسمية المشفى… هناك جهاز مص مفرزات لكنه غير مخصص للجراحة. هناك أدوات معقمة لكن ليس جميعها. في مشفى حقيقي، عندما يحصل حادث سير ويصاب نحو عشرة أشخاص، يضرب جرس الإنذار في المشفى وتبدأ حالة التأهب، وتفتح غرف العمليات الاحتياطية. في المشفى الميداني، كل نصف ساعة هناك ما يشبه حادث سير رهيب جداً. ارتطام صاروخ أو قذيفة هاون ببناء كامل، وفي ما يسمى بالمشفى، طبيبين، أو أكثر أو أقل، وأحياناً لا يوجد طبيب أصلا…

كان أكثر ما يغريني في مثل هذه الأوضاع هو كأس شاي “أكرك عجم”، الكؤوس المتسخة، وسيجارة الحمراء التي أضطر لتدخينها بعد نفاذ دخاني الأجنبي. إلا أنهم هذه المرة قدموا لنا الشاي بكؤوس بلاستيكية، تليق بالضيوف!

كان هناك ثلاثة أطباء بينهم جراح، لم يناموا منذ ثلاثة أيام، اختفوا من غرفة الإسعاف بعد عشر دقائق من وصولنا كي ينالوا قسطاً من النوم. ومنذ تلك اللحظة، كنا بين الحين والآخر نسمع أصوات انفجارات قذائف الهاون، وبعد عدة دقائق نشهد وصول خمس أو ستة جرحى جدد.

التحايل على عزرائيل

 أول الإصابات التي جاءتنا لشاب في الثلاثين من عمره مصاب بشظية في بطنه مع دخوله حالة صدمة نزفية، واكتشفنا لحظتها أنه لا يوجد طبيب أو فني تخدير، فقررت إجراء الجراحة وفتح البطن على أن يتولى طبيب الداخلية وأنا عملية التخدير أثناء تجهيز المريض.

بدأنا بعملية فتح البطن، وأنا أعيش أكثر حالة قلق في حياتي. كان أخ الجريح يقف جانبي وهو ما لا نراه عادة في غرف العمليات. كان يرجوني أن أنقذ أخاه، “عندو ولاد صغار”…

أحاول أن لا أفكر عندما أعمل إلا بفضاء الرؤية الذي لا يتعدى ساحة الدم عند الجراح، لأن مجرد التفكير يبعث على الانهيار.

طلبت إخراجه من الغرفة، وتابعنا العملية وأجريت أول عملية استئصال طحال في حياتي، والمريض مخدر فقط “بالانبو”.

أثناء العملية طلبنا “شانات” بطن، الممرض قدم لنا “شانا” غير معقمة، فرفضت استعمالها، فقال لي، ستطلبها مجددا وستستخدمها! معه حق، حتى مادة السيروم كنا نقنن باستخدامها على المريض لأن مريضاً آخر سيحتاجها عاجلاً.

أخيراً، طلبت خياطة الجرح وعدم إجراء مفاغرة، لأن المريض لن يحتمل أكثر من ذلك. وأغلقنا البطن، وذهب المريض إلى منزله، بعد زمن قصير من هذه العملية الضخمة!

وتوالى قدوم الاصابات حتى وصلنا شخص مصاب بشظيه في رأسه. كانت المرة الثالثة في حياتي التي ارفض فيها انعاش مصاب يصارع من اجل البقاء، لعدم رغبتي بتضييع الوقت. والحالات الثلاث كانت في مشافي ميدانية. وكان أكثر ما يجرحني، هو شهقة الموت الأخيرة…

أكره العمل بالمشفى الميداني. ولا لمرة واحدة شعرت أنني قدمت للمصاب كل ما أستطيع تقديمه. لا يوجد وقت ولا إمكانيات.

وأصعب قرار دائما هو أي جريح ستعالج. من كان أقرب إلى الموت لا تجعله يقف في الوجه، وفي فترة انشغال عزرائيل به حاول أن تهرَب فريسة أخرى منه!

مظاهرة في المشفى الميداني

أحد المصابين، ضحكنا معه كثيراً. كان لا يكف عن إلقاء النكات، رغم إصابته بتهتك في الجلد وعضلات الفخذين مع خروج الخصية من الغلاف الجلدي الذي يحيط بها. طلب أن نصور خصيته، وعندما أخبرناه أننا سنرسلها لقناة الجزيرة رفض، لأنه خاطب من جديد بعد زيجتين، ولا يريد “فركشة” الخطبة!

أكثر من أثر بي ممن التقيتهم خلال هذين اليومين، كان أبو محمد، شخص دائم التفاؤل، يضحك طوال الوقت، يضحك بوجوه الجرحى والموتى، ويوثق المصابين ويقوم بنقلهم، ويصورهم ويداويهم معنا. سألته ما سبب هذا التفاؤل، فأجابني، حين ننتصر، أخبرك…

في اليوم التالي، جاءنا خبر أن ولده محمد أصيب، وبدأ أبو محمد يركض ويبكي، ركضت وراءه.  محمد عمره تسع سنوات، أصيب بالفخذ، وبدأ محمد يخاطب والده:

–        يا بيَ ليش عم تبكي… ما لازم يسقط بشار حتى لو رحنا كلنا شهداء؟!

–        ولك بابا ماقلتلك ماتطلع عالشارع

–        بدي العب يا بيَ… يعني لو كنت بالبيت ماكنت انصبت؟

ثم عرفت سبب تفاؤل أبو محمد. محمد طلب بإصرار تصويره وارسال صورته للجزيرة، لأنه غير خائف كما برح يردد.

معظم المصابين كانوا من المدنيين. القصف العشوائي لا يتعرف إلا على المدنيين. قبل وصولنا بنحو ساعة كان هناك ثلاثة أخوة أطفال مصابين، جميعهم تحت سن الثانية عشرة. أحدهم أجريت له عملية وتوفي على الطريق إلى المشفى في حمص والاثنين الآخرين يعالجون إلى الآن. والأغلب، أن يكون الجرحى من عائلة واحدة. وهنا قصة الإيثار، كل منهم يتأوه ويسأل عن حال أخيه، أبيه… وهكذا… وندخل دوامة الكذب، الكذب في كل شيء…

أخاك وضعه جيد أرسلناه للمنزل، لكن دون أن نقول له أن البيت تهدم…

يبقى أن أروع شيء في الطب، هو أدوية التخدير. أحسها مثل برميل فودكا، تطلق العنان للمظاهرات داخل المشفى الميداني.

كل الذين بدؤوا بالهذيان تحت تأثير أدوية التخدير، أصبحوا يغنون للقاشوش، وكنا نردد معهم. أحدهم قمنا بتصويره على هذه الحال!

الأسير…

عالجنا خلال اليومين ثلاثة أسرى لدى الجيش الحر. الأول كان من منبج، كان بين ثيابه ثلاثة سلاسل ذهب، وثلاث “فانيلات” لأطفال رضع، يبدو أنه غنمهم خلال إحدى عمليات السطو على المنازل. سألناه من أين هو، كذب وقال أنه من درعا. هو سارق وكاذب وقاتل، وعندما وصل إلينا كان يشتم بشار، لكن عندما حاول الشباب تصويره وهو يتكلم ضد بشار رفض خوفا!

أسعفته، وبقي عندي حتى الصباح. طيلة الليل كنت أسمع من الركن الذي يفترض أن أنام فيه، أصوات التوبيخ والتحقيق الذي ليس له أي معنى، لكن أحداً لم يتعرض له بالضرب.

في الصباح جاءنا أسير آخر معروف بأنه قناص. بعد الإسعاف الأولي خرج من عندنا ودخلت عائلة من خمسة أفراد أصيبوا جميعاً، لنعلم لاحقاً أنه جرت تصفية الأسير لدى رؤية أفراد العائلة المصابين.

أبو محمد الرائع تصدى لذلك، وقال أن هؤلاء أسرى ولا تجوز تصفيتهم، وبالفعل، أبو محمد أنقذ الأسير صاحب فانيلات الرضَع من الإعدام.

في طريق العودة…

عندما أخبرنا الشباب بنيتنا للرحيل، بدأت الأقلام تخط طلباتهم الطبية، رغم معرفتهم أن وعودنا تفوق كثيراً ما نستطيع تقديمه. منذ عودتي وأنا أبحث عن جهاز بث فضائي للمسؤول الطبي في الرستن. عندما سألته ما علاقة الدعم الطبي بجهاز البث، أخبرني أنها غصة في قلوب نشطاء الرستن، أن يخرجوا على الهواء مباشرة ويعلنوا مدينة الرستن محررة. ودعنا المسؤول الطبي وأبو محمد، الذي زلزل كياني بطلبه عودتي بسرعة كي يراني قبل أن يستشهد.

عند تحويلة حمص، ودعنا السيارة التي كانت تستكشف لنا الطريق، ولوحنا بإشارة النصر للسيارة القادمة من دمشق التي تقل فريقاً جديداً من زملاء لنا، سيحلون مكاننا ليومين قادمين في المشفى الميداني بمدينة الرستن…