ومنهم من قُتل ومن سُجن ومن عاش
A mother visiting the grave of her son who was killed in an air raid in 2015. Photo by: Mujahid Abu al-Jud
مها (29 عاماً) من بلدة كفرنبل، يتيمة منذ كان عمرها 14 عاماً. فقدت والدها وهو في ريعان الشباب. مها الإبنة الأكبر في العائلة، ولديها أخت صغيرة وثلاثة إخوة. بعد وفاة والدهم، أصبحت الوالدة هي المعيل الوحيد للعائلة. وتقول مها أن والدتها حاولت جاهدةً أن تعوضهم عن حنان الأب، فكانت أماً وأباً بالنسبة لهم.
وبعد وفاة والد مها بعامين، تقدَّم شاب من المدينة لخطبتها. ولأنَّ وضع العائلة سيء، وافقت الوالدة على تزويجها في سن مبكر (16 عاماً).
محمد الأخ الذي يصغر مها بعامين، بسبب ما عاناه من وضع أسرته المتردّي، ذهب للعمل في محل خاله ليساعد والدته في مصروف العائلة. بالرغم من معارضة الوالدة، لأنها خشيت أن يؤثر عمله على دراسته، وهي كانت تحلم أن يدخل إبنها إلى الجامعة ويحصل على وظيفة جيدة.
مرت الأعوام واندلعت الثورة السورية وازدادت معاناة عائلة مها وازدادت عوزاً. في ذلك الحين كان محمد قد كبر وحقّق حلم والدته بدخول الجامعة، لكنه تخلّى عن دراسته والتحق بصفوف الثوّار مع عدد من رفاقه الشباب، وخرجوا بمظاهرات سلمية ضد النظام.
بعد فترة، دخل الجيش واحتل مدينة كفرنبل وقطّع أوصالها بحواجزه التي انتشرت في جميع أرجائها. وكانت مها دائماً تعتز بوالدتها التي كانت رغم أحوالها المادية الصعبة قد جعلت من منزلها حضناً دافئاً للثوّار. فتُعد لهم الطعام وتستقبلهم وتحن عليهم وتحثهم على الإستمرار في الثورة، وكأنها أمهم جميعاً.
وتقول مها أنها كانت تردد دائماً بحرقة، كلام والدتها: “سنعيش ويأتي اليوم الذي تنتصر فيه الثورة ويسقط بشار الأسد (الرئيس السوري)”.
بعد أكثر من عام على الثورة تحررت مدينة كفرنبل، وتمَّ دحر الجيش الظالم منها. وكانت والدة مها من أكثر الناس فرحاً بالتحرير. لكن لم تكن تدرك أنّ هذا النظام المجرم لن يترك المدينة وشأنها، حيث بدأت طائراته بقصفها، انتقاماً لجنوده الذين قُتلوا فيها.
وبعد تحرير كفرنبل (10 أب/أغسطس 2012) بحوالي العشرة أيام، طلبت والدة مها من إبنها أن يأخذها لمنزل والدها بالقرب من الحاجز المحرَّر. لتساعده في توضيب أغراض منزله التي تناثرت بسبب استهداف المنزل من الحواجز الهمجية وطائرات النظام. حين انتهيا وكانا في طريق عودتهما إلى منزلهما، سبقهما قضاء الله وقدره، فألقت طائرة غادرة للنظام صواريخها الأربعة فوقهما!
وقد حدّثتنا مها بغصة وحرقة في كلامها، وهي تقول:”هذه الغارة لا تُمحى من ذاكرتي، تلك الغارة التي قتلت أمي وأخي مع عدد كبير من الأبرياء”.
تابعت مها والدموع تنهمر من عينيها: “نتيجة القصف، فقدت بيتي الزوجي الذي كان يعيلنا أنا وزوجي وأولادي، ولأن أخي وأختي الصغيرين بقيا دون معيل، سكنت أنا وعائلتي مع إخوتي”
وتضيف مها: “أخي الثاني كان جندياً في جيش النظام، وحاول عدّة مرات الإنشقاق، لكن لم تسنح له الفرصة المناسبة، فاستطاع الهرب قبل استشهاد أمي وأخي. لكنه أضاع ورفاقه الطريق! وألقي القبض عليهم وتم سجنهم”.
وبحسرة تقول مها: “استشهدت أمي وهي لا تعرف مصير أخي الثاني، كانت أمنيتها الوحيدة أن تراه قبل مماتها، ولكن مشيئة الله كانت غير ذلك”.
لم يبقَ لـِ مها من عائلتها، سوى أخويها الصغيرين، وتقول: “أمضيت عاماً من الحزن والعذاب أتذكّر أمي التي ربتنا بعد وفاة أبي، وعانت الأمرّين لإسعادنا. وأخي الذي ترك جامعته في سنته الأولى ليساعد أمي في مصروف العائلة… وأخي الآخر الذي يقبع في سجون النظام!”
بعد عام من استشهاد والدة مها، مَنّ الله عليها بخروج أخيها من براثن سجون النظام المجرم ووصل بأمان إلى مدينته. لكنهُ صُعق بخبر استشهاد والدته وأخيه الأكبر!
ومع كل الآلام والمعاناة التي مرّت بها مها وإخوتها الصغار، إلّا أنَّ قدوم أخيهم وخلاصه من جحيم السجن كان بالنسبة لهم كومضة نورٍ في ظلامٍ حالك.