ولادة ابنتي تشبه ولادة سوريا الجديدة
عدت مساءً إلى بيتي. كان التعب قد غلبني. دخلت إلى غرفتي لأنام. جاء زوجي بعد ساعة، ودخل إلى الغرفة، فوجدني أبكي. سألني عن سبب بكائي. أخبرته أن الطبيبة قالت لي أنني سألد بعد ثلاثة أيام. وأنها ستضطر لإجراء عملية قيصرية. وعندما سألتها عن السبب قالت لي بأن الإمكانيات الطبية سيئة للغاية في ظل الحصار، وهناك احتمال أن يحدث نزيف. وهي لا تستطيع أن تخاطر بذلك لأن أي عقبات في الولادة قد تؤثر على حياتي وحياة الجنين. ولذلك من الأفضل أن إجراء عملية قيصرية بدل انتظار الولادة الطبيعية. وهذا ما تفعله أغلب نساء الغوطة، في ظل الظروف المتردية. كنت خائفة من ذلك. حاول زوجي تهدئتي، ولكن الخوف تملّكني، خاصة أنه جنيني الأول .
في الصباح ذهبت إلى منزل أهلي. هناك حادثت والدتي لنستعد للعملية. فنحن يجب أن نؤمن أكياس السيروم وبعض الحقن والأدوية التي سأحتاجها في الولادة. لأن المشفى لا يوجد فيها هذه الأدوية، والطبيبة أخبرتني أن ذلك يقع على عاتقي. وبدأت رحلة البحث عن الأدوية. أنا وأمي وزوجي وصديقاتي كل واحد منا بدأ يسأل معارفه وأصدقاءه، علّه يحصل على شيء في ظل هذا الحصار الخانق الذي فرضه النظام في دمشق، على الغوطة الشرقية منذ أكثر من عام، منع خلاله دخول الدواء والغذاء إلى الأهالي.
لم نستطع أن نتدبر كل الأدوية المطلوبة. عثرنا على قسم منها، وهي أدوية استهلك بعضها ولكنها كانت بمثابة كنز لنا. أعطيتها لأمي لتحضرها إلى المشفى أثناء عملية الولادة. أذكر كيف حملت والدتي هذه الأدوية بطريقة مثيرة للضحك في ظل هذه الأوضاع الصعبة. حملتها وكأنها تحمل قطع مجوهرات باهظة الثمن، وليس بضعة أدوية لا يصل سعرها إلى الخمسة آلاف ليرة سورية خارج الغوطة. ولكنها داخل الغوطة قد يتجاوز سعرها المئة ألف ليرة سورية إن وجدت.
حان موعد العملية. كان ذلك في 8 آب/أغسطس 2014. دخلت إلى المشفى وإلى جانبي زوجي وأمي وصديقتي الممرضة التي أصرت على حضور عملية الولادة. جهّزتني الممرضة لدخول غرفة العمليات، لأنصدم بمستوى التعقيم الموجود. كانت غرفة العمليات قد تحولت من غرفة عالية التعقيم إلى غرفة مهملة، يوجد فيها أشياء ملوثة مرمية في زواياها. وهناك رائحة كريهة تصدر منها غير رائحة النظافة.
ظهر الرعب في عيني، فضحكت صديقتي و همست في أذني قائلة: “هل تعتقدين أنك ستدخلين إلى غرفة كتلك التي كنت تشاهدينها في المسلسلات؟ صديقتي هذه الغرفة لا تخلو على مدار الأربع و العشرين ساعة. فالعمليات للمصابين و الجرحى من القصف مستمرة، و لا يوجد وقت أو أدوات أو مواد معقمة كافية بسبب القصف الذي لا يتوقف. والحصار استهلك أغلب مدخراتنا. وأنت محظوظة لأنك استطعت أن تؤمني بعض الأدوية. لا تخافي فنحن سنعمل أقصى ما نستطيع من أجلك، ولكن عليك أيضاً أن تتجاوزي صدمتك هذه. أنتِ هنا في الغوطة، و أنصحك أن تتذكري كيف أنجبت جدتك أولادها لكي تشعري بالراحة” .
لم أستطع أن أخفي صدمتي التي زاد منها التخدير الموضعي الذي أجرته الطبيبة لي. وتبين أنه منتهي مدة الصلاحية، فاضطرت الطبيبة لإعطائي حقنة أخرى. وأنا أتلوّى من الألم وأصرخ وأبكي. وصديقتي تحدثني لتخفف عني ولكن دون جدوى.
تذكرت أبي المعتقل، وأخي الشهيد. أحسست بوجودهما إلى جانبي، واستمديت القوة منهما. وصمدت في تلك الغرفة لتطل منها ابنتي رفيف على هذه الدنيا.
لم أبق في المشفى إلّا ساعة واحدة بعد انتهاء العملية. ليس هناك من إمكانية لإبقائي، تم تخريجي إلى المنزل. والمضحك في الموضوع أنه لا يوجد حتى سيارة لأعود فيها. تم نقلي بسيارة الإسعاف الخاصة بالمشفى. وطوال الطريق أمي تتحدث عن المشافي قبل الثورة، والحال التي وصلت له في ظل الثورة. والعناية التي كانت تتلقاها المرأة أثناء الولادة، والتي أصبحت معدومة في ظل هذه الظروف الصعبة. كانت أمي هي من تحمل ابنتي، وتحضنها بقوة في تلك السيارة التي نقلتنا إلى المنزل. سيارة الإسعاف التابعة للهلال الأحمر، حيث أنه بسبب غلاء أسعار الوقود لم نتمكن من تشغيل سيارتنا، فطلب زوجي من الهلال الأحمر أن يقوموا بنقلي إلى المنزل .
تذكرت وأنا في السيارة أياماً عشتها في منتهى الرفاهية، مقارنة مع وضعي الحالي. لم أعتقد يوماً أنني سألد في غرفة منارة بأضواء موصولة إلى بطارية كهربائية. وبأنني سأغادر المشفى بعد ولادتي فوراً لصعوبة بقائي في المكان. أو أنني سأعود حاملة طفلي إلى منزلي بسيارة إسعاف مخصصة لنقل المصابين والشهداء. لم أستطع أن أقاوم ضحكتي التي خرجت رغماً عني وعن ألمي، وأنا أمسك يد زوجي الذي نظر في عيني وشاركني الضحك، وأمي الغاضبة أيضاً بدأت تضحك رغماً عنها.
إنها ولادة الأمل من رحم اليأس. يكفيني فقط أن أنظر في وجه ابنتي البريء، لأشعر بالأمل وبالطمأنينة على الرغم من الظروف الصعبة التي نعيش فيها. أعتقد أن ولادة ابنتي تشبه ولادة سوريا الجديدة. ولادة مملوءة بالألم ولكنها في ما بعد ستنجب حباً وعدلاً وربيعاً يستحق التضحيات التي قدمت لأجله.
سمر الأحمد (25 عاماً) أخت شهيد، ابنة معتقل. تعمل في المجال الإغاثي، متزوجة ولديها طفلة. وتعيش بالغوطة الشرقية المحاصرة بريف دمشق.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي