وحيدة في المنزل أسترق السمع
عن أي ربيع عمر نتحدث؟ مضى حتى الآن 25 عاماً من عمري، كأنه حلم. كانت آخر ست سنوات منهُ، كابوساً لم أصحُ منه بعد. يزرع بداخلي كل أنواع الخوف والرعب.
باتت قصص الموت تُروى للأطفال قبل نومهم، وأصبحت ألعابهم في وضح النهار، جيش حر وجيش الأسد. أصوات شجارهم تعلو في الحي، لا أحد منهم يرغب بأن يكون من جيش النظام، وبنادقهم عصيٌ يابسة من إحدى الأشجار الهرمة.
في يوم من العام 2012، وبرغم السماء الصافية في دمشق وصوت فيروز الذي يصدح، كان ذاك الطائر الحديدي يعيدني للحرب في كل مرة يرتفع فيها إلى كبد السماء… إنها الطائرة الحربية… أذكر حينها، تسللت فكرة عنيدة إلى رأسي، بأن أعود إلى مدينتي في الغوطة الشرقية!
ما حدثَ في ذلك اليوم كأنه بالأمس القريب. عندما قررت العودة والبقاء في منزلنا في ريف دمشق وحدي، وأن أترك عائلتي في العاصمة التي لجأنا إليها مع بداية الحرب.
صوت والدتي ما يزال يرن في أذني، وهي تحاول إقناعي بعدم الذهاب. لكن محاولاتها العديدة باءت بالفشل الذريع وذهبت أدراجَ الرياح!
عدتُ إلى ريف دمشق… إلى مدينة ضجَّ بها الموت. الكهرباء تنقطع باستمرار، وانقطاعها كان أصعب ما يمر علي ويصيبني بالجنون أكثر من القصف.
والإثنان لا يجتمعان، القصف والكهرباء… وكأنَّ الأمر فيه عداء بينهما، من شبه المستحيل أن يتواجدا معاً، فحين تقصف الطائرة تكون الكهرباء مقطوعة!
كنت أواسي نفسي بالتلفاز، ومع انقطاع الكهرباء أصبحت أواسيها باستراق السمع إلى ما يتحدث به الجيران! أمر غير جيد صحيح، لكنها وسيلة التسلية الوحيدة التي كانت متاحة لي، بعد انقطاع كافة وسائل التسلية. وبكل صراحة، الأمر ممتع!
لا سيما عندما يحل المساء، أجلس في مطبخ منزلنا الصغير ومن حولي شمعة يتيمة تضيء عتمتي. أفتح نافذة المطبخ التي تطل على المنوَر (شرفة صغيرة على طول البناء) فتصل إلى مسمعي دون عناء يُذكر، أحاديثُ الجيران.
تتقطع أحاديثهم بين الفترة والأخرى، بسبب القصف الصاروخي. ثمَّ يعودون للحديث مع توقف مؤقت لصوت القصف.
أعترف أن ذلك هو اليأس بعينه! فما باليد حيلة لمواساة وحدتي القاتلة التي اخترتها بنفسي!
في ذلك العام، بدأت أدرك نعمة الكهرباء. أنظر لتلك الشمعة اليتيمة وهي تذوب وأنا كلي نقمة! اشتريتها بـ 50 ليرة سورية أي أنه ثمن باهظ لشمعة واحدة، أمّا سعرها الآن صارَ أضعافاً مضاعفة. كنت أرغب بأن
أتشاجر مع البائع، لكني تمالكت نفسي مُرغمة. ليس باليد حيلة، الجميع يريد أن يجني الأموال على أكتافنا.
تحولت الكهرباء إلى عقدة كبيرة. ففي ذلك العام لم تكن ق ظهرت بعد فكرة الإشتراك بمولدات الكهرباء. وكان العاملون في مجال الكهرباء، يسعون ليلاً نهاراً لإصلاح أعطال الأسلاك الكهربائية التي يدمرها القصف. وما إن ينتهون من إصلاح الأعطال وتمديد الأسلاك المقطوعة، حتى تنقطع الأسلاك من جديد، لذات السبب! كلعبة القط والفأر!
حينها بدأت أواجه أيضاً مشكلة المياه، لو بوتيرة أقلّ من غيرنا. فبناؤنا فيه بئر خاص لمياه الشرب والإستخدامات الأخرى، ما يجعلنا نستغني عن “مياه الدولة”. لكنَّ العائق صار بانقطاع التيار الكهربائي بشكل مستمر، فكيف نضخ المياه من البئر؟
أيام عشتها وحيدة، في شتاء العام 2012. كان شتاءً قاسياً. الأمطار تهطل بشكل شبه مستمر. كان ذلك نعمة كبيرة لناحية ري الأرض وامتلاء آبار المياه، التي تعوّض ولو بشكل مؤقت، عن انقطاع مياه الشرب عن المدينة منذ أشهر.
وكذلك نعمة الغيوم في السماء، تعتبر حاجزاً منيعاً لتحليق الطيران الحربي لفترة من الزمن. وقد يستمر عدم التحليق في كثير من الأحيان لعدة أيام! ومع ذلك، يلجأ نظام الأسد لاستخدام المدفعية والهاون وبعض صواريخ أرض-أرض بدلاً من تحليق الطائرات.
والغريب أنَّ قذائف الآربي جيه، أصبح استخدامها نادراً، نظراً لقصر مداها وقلة الضرر الذي تسببه للأبنية.
العيش وحيدةً داخل مدينة شبه محاصرة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، أشبه بمستنقع يصعب الخروج منه بسهولة. لكن منذ ذلك العام حتى اليوم، هذا هو حال الكثيرين!
فيستمر تضييق الخناق على الغوطة الشرقية، لتبقى تعاني ما تعانيه بصمت وصبر.
أما ذلك البطل المنقذ الذي سينتشلنا مما نمر به من أوجاع، لم يولد بعد!
ويبقى الوطن بانتظار اليوم الموعود بالخلاص…
مرام سعد (25 عاماً) ولدت في إحدى مدن الغوطة الشرقية في ريف دمشق. متطوعة في الهلال الأحمرمنذ 6 سنوات. خلال الثورة كانت متظاهرة ومسعفة ميدانية وناشطة إعلامية في العاصمة دمشق، عملت مع عدة وكالات إخبارية محلية. مرّت بأوقات صعبة خلال إسعاف المصابين أعنفها وفاة والدها بين يديها عام 2014 بعد نزوحهم إلى مدينة دمشق.