هجرة الظلام الأسود إلى قورقنيا

وسيلة نقل خاصة تستوعب جميع افراد العائلة بمن فيهم النساء في حي المعادي في حلب. تصوير: صلاح الأشقر

في شهر آب/أغسطس 2012 بدأت قصه تهجيرنا إلى قورقنيا، إحدى قرى ريف إدلب الشمالي. أنا وعائلتي المكونه من أمي وأختي الصغيرة وأخي الصغير وعمره ثلاث سنوات. وكان معنا عائلة أخي الكبير المكونه من زوجته وأطفاله الأربعة وأيضاً عائلة خالتي المكونه من ابنتين والأم والأب .

 

في بدايه قصة النزوح كنا في منطقه قريبة من إدلب تسمى بروما. عندما تقدم الجيش إلى طريق باب الهوى تصدت له مجموعه من الكتائب والألوية كان أخي الكبير قائد كتيبة جعفر الطيار من بينهم. بعدها أتى أخي ومعه بعض الشباب بخبر إلينا أن النظام لن يسكت على خسارته تلك المعركة وسيعود ويقتحم من جديد، وأن الطيران الحربي لن يترك منطقتنا.

قال أخي: يجب أن تتركوا المنطقه كلها، حرصا على الأطفال الصغار. يجب أن تبتعدوا من هنا وبأسرع وقت.

في تلك الليلة تمكن أخي من إقناع والدتي بفكرة الرحيل، ولكن أبي لن يتراجع عن موقفه وكلامه لن يترك المنطقة .

قالت أمي: سنرحل ليس من أجل الحفاظ على حياتنا، ولكن من أجل صغارنا لن يتحملوا ما سيحدث لهم هنا.

قرروا في آخر الليل المظلم الرحيل. أمّا أبي فسيبقى في بروما لمساعدة المجاهدين إن حدث شيء مفاجئ.

 

أخذنا أخي إلى قورقنيا، لكنني لم أكن مطمئنة حيال الذهاب إلى هناك، عندما وصلنا كان في انتظارنا أنس الزير، قائد كتيبة من لواء يوسف العظمه، أعطانا منزلاً من بيوت “الشبيحه” (تسمية تُطلق على أنصار النظام والمتعاونين معه) في القرية، وبقينا فيه لمده عشرة أيام. كان شهر رمضان المبارك، وفي تلك البلدة لا يوجد محلات لبيع المأكولات أو المستلزمات للبيت من طعام وغيره، ونحن لم نأخذ معنا شيئاً من حاجات الغذاء إلّا القليل لنسد ظمئنا وجوع أطفالنا. كان هناك فرن واحد فقط ولا يكفي سوى لأهل القرية. وفي قورقنيا نازحون ومهجرون كثيرون أمثالنا ويشهد الفرن إزدحاماً كبيراً .

كانت أمي وزوج خالتي في كل يوم يستيقظان صباحاً بعد صلاة الفجر، يذهبان إلى الفرن حيث ذات مرة حصل إطلاق رصاص لفض مشاكل ناجمة عن الازدحام. أصيبت أمي بيدها كانت الإصابة طفيفة .

 

كنا نعاني من نقص المياه، كانت حمولة الصهاريج مرتفعة السعر. كنا نغسل على أيدينا من دون الكهرباء،  نعمل على تسخين الماء على الأشعة الشمس للاستحمام… عانينا الكثير. وفي بدايه أيامنا هناك في شهر رمضان بقينا نأكل البرغل والعدس، ثلاثة أيام دون اللبن والخضروات معها لعدم تواجد شيء في القريه وبسبب الغلاء ….

عندما جاء أخي إلينا ورأى حالتنا هذه، ذهب إلى بلدة معارة مصرين حيث اشترى لنا من الفرن حوالي الخمسين ربطه من الخبز والخضراوات الكافية، ترك لنا حاجتنا وأعطى الباقي للمحتاجين النازحين أمثالنا .بعدها نقلنا انس الزير إلى بيتٍ ثانٍ قريب لمقره، ولكن البيت كان معتماً وصغيراً جداً وريحته كريهة، فنقلنا مره أخرى إلى بيت ثالث ولقد كان بيت شرطي مع النظام …

 

بعد شهر رمضان حلّ العيد ولقد كان عيد شؤم بعيداً عن والدي وأخوتي … نازحون من بيتنا لبيوت في قرى بعيده كان عيد التشرّد والنزوح والبكاء. في صباح العيد كنا نساء لوحدنا وكانوا رجالنا في المعركه بعيدين عنّا لا نعرف عنهم شيئاً، كنا نحتاج لكل شي من أمن وحنان واستقرار… كنت كلما نظرت في وجه أمي وخالتي وزوجة أخي أرى الدمع في عيونهم .

لم أحتمل هذا الشعور هذا البعد والفراق، وخصوصاً في العيد، عندما أنظر إلى الأصدقاء وهم مع آبائهم ومع عائلاتهم يذهبون لزيارة أقاربهم والفرح في عيونهم، بينما أنا بعيده عن أبي وأخوتي وبيتي وأقاربي.

في صباح اليوم التالي فاجأنا أبي بزيارة ليطمئن على أحوالنا، ثاني أيام العيد كانت فرحتي لا توصف. بدأت أبكي وأضحك في نفس الوقت لم أعرف لماذا!

قررت أن أرجع مع أبي لأبقى معه لوحدي لانني لن احتمل ذاك الوضع .فأخذني معه، وبعد ثلاثة أيام أعادني أخي معه إلى قورقنيا، بحجه أن أبي سيذهب معهم للمعركة القادمه ولا يريدني أن أبقى لوحدي في البيت.

رجعت مع أخي وباقي كتيبته وعتادهم وسلاحهم إلى قورقنيا. وعندما وصلنا قرروا إلغاء المعركة لأسباب عسكريه وتأجيلها لليوم التالي.

ابن خالتي محمد الدوش كان صغيراً وعمره 12 سنة. قال لهم: أريد الذهاب معكم.

وقبل خروجهم كان محمد يغطّ في نومه فوقف بجانبه اخي وناداه بصوت منخفض. وقال لاصدقائه اشهدوا أنني ايقظته…

وما فعله أخي كان بسبب خوفه عليه لصغر سنه. وعندما تأجلت المعركه لليوم التالي ،فرح محمد الدوش، وذهب معهم إلى معركة حارم.

قال محمد لأمي: ادعي لنا ياخالتي…  كانت تلك آخر كلمات سمعتها منه…

رجعوا من المعركه جميعاً ولكن محمد الدوش لم يرجع معهم. علمت امه بالخبر … وفي نفس الوقت علم النظام من المخبرين أين تقيم عائلة قائد كتيبه جعفر الطيار، فألقت طائرات الهليكوبتر براميل متفجرة لكنها أصابت البيت المجاور لنا.

بعدها رجعنا إلى منطقه بروما ومعنا الشهيد البطل محمد الدوش حيث دفن في مزرعتنا بجانب البيت …

كم اتمنى أن لا تعود علينا تلك الأيام السود ورحم الله ابن خالتي وتقبله من الشهداء بأذن الله

 

 

*رزان في السادسة عشر من عمرها، مازالت تحاول أن تدرس رغم نزوح عائلتها المستمر في ريف إدلب. والدها مصاب وفقدت أخويها الكبيرين أثناء قتالهما ضد قوات النظام وهي تعيش في مزارع مع عائلات المقاتلين.