هاربون من وطننا
في كل مرة أركب فيها الحافلة كنت أسهو بأي شيء غير مبالية بشوارع حلب وأبنيتها، إلا في ذاك الأسبوع الذي سبق موعد سفرنا أو بشكل اوضح موعد مغادرتنا لهذه المدينة دون عودة. كنت أمعن النظر في تفاصيل هذه المدينة أتأمل البؤس والشقاء في وجوه أبنائها، أراقب الحياة فيها وأنا على يقين أنني لن أعود لأعيشها، حتى ركوب الحافلة والازدحام الذي كنا نعانيه بات يترك أثراً بي بعد أن كان يجعلني ألعن اليوم الذي ركبت فيه الحافلة.
جامعتي التي لم يمر على ارتيادي لها سوى سنة ونصف، إلّا أنها طبعت في روحي ذكريات أشك بأنها ستنمحي يوماً ما، كنت أراقب بناءها، اللوحة التي تحمل اسمها، طلابها الذين لم أختلط معهم كثيراً خوفاً من مخبر قد يشي بي وحفاظاً على نفسي، إلّا أنني شعرت بأنني سأفتقدهم. مختبراتها التي كان لها مكانة خاصة عندي، كون أبي المختطف عند داعش قد درس فيها، في كل مرة كنت أدخلها أتخيل أنه يوما ما كان قد جلس في الأماكن التي جلست فيها وقدم امتحانا على إحدى طاولاتها. كنت أراقب كل تلك التفاصيل خلال أسبوع حتى أصابني الألم لأنني مدركة أن لا عودة لي إلى هنا. ولكن الوجع الأكبر كان في تلك اللحظة التي احتضنت فيها أصدقائي، وتأملت عيونهم الملتمعة بدموع الوداع، تلك العيون التي كانت معي لسنوات عديدة. تلك العيون التي بكت معي في مصيبتي وضحكت لفرحي. ويزداد الوجع مع مرور الحافلة في ساحة الجامعة متجهة إلى منزلي في اليوم الذي يسبق موعد سفرنا. في ذاك المساء التمعت الدموع في عيني وأنا أتأمل ساحة الكلية المضاءة بالأنوار المنعكسة أشعتها على بنائها وحديقتها، أخذت نفساً عميقاً مواسية نفسي أنه لربما تكون لنا عودة ذات يوم.
في صباح يوم السفر حملنا أنا وأختي حقائبنا المملوءة بكل أشيائنا استقلينا سيارة “السرفيس” المتجهه إلى كفرنبل. عبرنا أوتوستراد صلاح الدين الذي كانت تحرسه أبنية مهدمة كقلوبنا، تشعر بأنها محنية الظهر كما نحن، كما لو أنها تودعنا وتقول لنا أنقذوا أنفسكم قبل ان يفعلوا بكم ما فعلوا بي، لتستقبلنا بعد ذلك حواجز النظام المتمركزة على طريق خناصر والتي حقدي عليها ازداد في ذاك اليوم ففي وجوه عناصرها رأيت وحوشاً كانت سبباً في استسلامنا وتخلينا عن الثورة وتهجيرنا. كانت تلك الحواجز كثيرة ولكن التخلص منها ومن ذلها كان ثمنه بضع مئات سورية أو باكيت دخان، لكن مع ذلك لازمنا رعب من ثغرة لم ننتبه إليها في تأمين هواتفنا أو اللابتوب أو حتى جوازات السفر المختومة بختم تركيا والذي بات جريمة يعاقب عليها المواطن السوري ويتعرض للاعتقال بسببها.
تنفسنا الصعداء مع انتهاء آخر حاجز للنظام لنبدأ جولة جديدة في هذه المسرحية وبزيّ مختلف، بعد ان كنا نرتدي “بيجاما” الرياضة ، بتنا نضع الحجاب ونلبس العباءة ونضطر لنضع قطعة قماش سوداء على وجهنا عند حاجز جبهة النصرة، والذي لا يبعد إلا بضعة أمتار عن حاجز النظام، والذي عندما وصلنا إليه لم ينتبه العنصر إلا على الكاسيتات الموضوعة أمام السائق مستفسراً عنها. السائق كان ذكياً فأجابه أنها متنوعة فيها قرأن وأغاني مختلفة، ليتلقاه العنصر بحديث للرسول لم أستطع حفظه ولكن ينهي عن استماع الأغاني، أما السائق على ما يبدو كان مدرب على مثل تلك المواقف فأجابه بسرعة محسوبة “إنها مجرد أصوات نسمعها كي لا ننام حيث أننا لا نركز في معانيها بقدر ما هي غاية لنبقى مستيقظين”.
علمنا من السائق أن هذا الحاجز هو الأهم وأن ما يأتي بعده لن يسببوا لنا أي أشكال مما دفعني لأن أغمض عيني وأنام. استيقظت في بلدة تلمنس في ريف معرة النعمان، لكن لم تكن بلدة عادية بل كانت تشبه البلدات التي خاضت الحرب العالمية الثانية والتي كنا نشاهدها في الأفلام أو التقارير، أبنية مهدمة، ركام، أبنية مخترقة بالرصاص، أحياء مهجورة. رغم كل تلك المشاهد المرعبة، إلّا أنها لم تترك أثراً بي كمعرة النعمان التي عرفتها منذ نعومة أظافري، فقد جعلتني أصمت، أتساءل في نفسي كم من البراميل سقطت هنا وكم من السوريين استشهدوا تحت هذا الركام، وكيف استطاعت جبهة النصرة أن تحول متحفها الشهير إلى مقر لها، كم تغيرت تلك القرى و البلدات بعد غيابنا عنها ثلاث سنوات. التغيير لم يطل قريتنا الصغيرة المهملة من قبل طائرات النظام، مع دخولنا فيها كان كل شيء كما هو باستنثاء أنني للمرة الأولى أدخلها دون أبي. كانت أرضنا التي زينها أبي بأشجار الزيتون تقع على طرف الطريق كأنها تنتظر عودة اليد التي اعتادت الأعتناء بها. كانت تلك الاشجار تلوّح لدموعي لتنزل ولشهقاتي المذبوحة كي تخرج من صدري، والتي استجابت لها خصوصاً عندما رأيت وجه جدتي التي حفرت عليه الحياة وقسوتها أخاديد كما حفرت على وجه ابنها المختطف، رأيت فيه وبدموعها معاناتنا لسنة ونصف، وجدت في حضنها حضن أبي الذي اشتاقت له روحي.
قضينا ليلتنا الاخيرة في سوريا في منزل جدي حول المدفأة التي اعتدنا الجلوس عندها برفقة أبي وأعمامي ولكن هذه المرة بدونه، قضيناها ودموعنا تخوننا في كل ذكرى لنا معه نستحضرها. وفي صباح اليوم التالي كانت رحلتنا الأخيرة إلى معبر باب الهوا وقد مضى على إغلاقه يومان مما أدى إلى إزدحامه، كان لا أمل لنا في الدخول في نفس اليوم لكن مع تعاون بعض الأصدقاء وتقديرهم لوضعنا كفتاتين لوحدهما على الحدود استطعنا أن ندخل دون الألتزام بالدور. كان الجو ماطراً ومع كل خطوة لنا كانت أقدامنا تغوص في الوحل ونتعثر بعباءتنا وحجاب لم نعتد عليه. لحظات عصيبة مرت تألمت فيها لمقدارالذل الذي عشناه ونحن نهرب من وطننا. شعرت بمعاناة من هربوا قبلنا، نظرت في وجوه السوريين البائسة الذين تركوا خلفهم حياة وذكريات ومنزل وربما شهداء. نظرت نظرتي الأخيرة إلى وطني متمتمة “آه يا وطن كم من الآلام لحقتنا في ربوعك وكم نحتاج من الوقت للملمة جراحك، وكم نحن جبناء لتخلينا عنك، آه يا وطن”.