نرجيلة وفنجانُ قهوة… ودَم!
An elderly man from Zamalka
"أتذكَّرُ ذلك اليوم جيداً... كان صباحهُ هادئاً للغاية... ليس فقط من أصوات القذائف والرصاص، بل من أصوات الناس حتى! فلم يكن قد بقي من سكّان القرية الذين يتجاوز عددهم العشرة آلاف نسمة، إلا أنا وعائلتي وبعض الجيران!"
يومُ الأربعاء 21 آذار/مارس 2012، بعدما كانَ النظام قد قصفَ بطريقةٍ عشوائية وجنونية منطقة سهل الغاب في ريف حماة الجنوبي… كنّا قد فقدنا الأمل بأن تهدأ الأوضاع وتعودُ الحياة لطبيعتها… ولم نعد نُصبّر أنفسنا بأن نستكين اليوم أو غداً، فهذا دون جدوى!
قرّرنا في ذلك اليوم وبشكل مفاجئ أن نهرب من قريتنا إلى قريةٍ مجاورة. ثمّ تحوَّلَ هروبنا إلى نزوحٍ، علَّ القرية التي نزحنا إليها تكونُ أقلَّ توتراً… لكنها للأسف، لم تكن كذلك!
أتذكَّرُ ذلك اليوم جيداً… كان صباحهُ هادئاً للغاية… ليس فقط من أصوات القذائف والرصاص، بل من أصوات الناس حتى! فلم يكن قد بقي من سكّان القرية الذين يتجاوز عددهم العشرة آلاف نسمة، إلا أنا وعائلتي وبعض الجيران!
نعم، لم يبقَ في القرية سوى خمسين شخصاً تقريباً، بالإضافة إلى بعض الشبّان الذين إنضمّوا إلى الجيش الحر… فقد كانوا متواجدين أيضاً لحماية بيوت القرية من السرقة، بعد أن تركها سكّانها ونزحوا هرباً من القصف…
قرابة الساعة الواحدة ظهراً، جلستُ أنا وأختي وجارتنا لشرب القهوة في شرفة الدار… كنّا فرحات جداً، أنه حتى تلك اللحظة لم تُطلَق أي رصاصة! لكننا لم نُكمل شرب القهوة، حتى رأينا صاروخاً ضخماً يمرُّ بسرعة الضوء من فوقنا تماماً! فتحنا أفواهنا بذهول، ولم نُغلقها إلاّ على صوت انفجار الصاروخ!
كان صوتهُ مدوّياً وضخماً… شعرنا أنّ القرية كلَّها ستغوصُ في الأرض! بدأت أصوات الصراخ والبكاء وطلب النجدة تتعالى… وبدأ شباب الجيش الحر بالركض نحو صوت الانفجار…
إتجهنا نحو الشارع لنعرف ماذا حدثَ وأين وقع الصاروخ… كان مكان وقوعه قريباً من بيتنا، إذ أنهُ باستطاعتنا أن نرى ما يحدث من أمام باب المنزل… ها هوَ الغبار يملأُ الجو ولم تكن الرؤية متاحةً بشكلٍ جيد!
لم نجرؤ على الاقتراب كثيراً لرؤية ما يحدث خوفاً مما سنرى، أو من صاروخٍ آخَر قد يسقط في المكان! فهم كانوا ينتهزون فرصة أن يتجمّع الناس في مكان سقوط الصاروخ، ثمَّ تبدأ القذائف بالهطول كالمطر ويذهب أكبرٌ عددٍ من الضحايا!
كان والدي حينها موجوداً في المنزل… خرج من غرفته مسرعاً، واتجهَ نحو السيارة… أخرجها من مكانها ونادى علينا بالركوب قبل أن يعرف ماذا حدث! فالقصف كانَ غزيراً! لم نعرف أين تقع القذائف! ولا نعرف من أي طريق سنخرج! القذائف تسقط على كل الطرقات المؤدية إلى مداخل ومخارج القرية!
كان أبي يحاول أن يكون حذراً جداً وهو يقودُ السيارة… وفي آن كان مترنّحاً! في مرة يذهبُ يميناً ومرةً يذهبُ يساراً… كانت القذائف تسقط بالقرب منا، وأصواتها تقصف الروح!
رغم صعوبة الموقف وتأزّمه، لم أستطع البكاء يومها… كنت ما أزال في حالة الصدمة من صوت الصاروخ الذي مرَّ من فوقنا ومن الصواريخ التي تنهال حولنا! كنا قد خرجنا من منزلنا قبل أن نعرف تماماً أين وقع ذلكَ الصاروخ… وهل تأذّى أحدٌ منهُ؟!
في منتصف الطريق الذي سلكناه بين البساتين، والذي لم نكن نعرف إلى أين سيصل بنا، صادفنا أحدَ شبّان القرية وكان ملتحقاً بالجيش الحر… فسألهُ أبي عن ضحايا ذاكَ الصاروخ الذي جعلنا نهرب…
وهنا كانت الصدمة، حين قال لنا: “يوسف”! كان يوسف شاباً في الخامسة والعشرين من عمره، يتيم الأب منذُ ولادته… متزوّج ولديه طفلين… لم يكن لديه أي انتماءات سياسية! يعني فعلياً لم يكن هناك أي سبب لاستهدافه!
علمنا أنَّ جارنا يوسف كان يجلس على سطح منزله يشربُ النرجيلة مع فنجانٍ من القهوة! يبدو أنهُ كأنَ مستمتعاً بهدوء ذلك الصباح الخدّاع كما كنا… وأتاه الصاروخ! صدمنا الخبر حينها لأنهُ كان قبل استشهاده بربع ساعة تقريباً قد مرَّ وألقى التحية على أبي، وقال له: “على ما يبدو يا عمّي أنّ القرية لا يوجد فيها أحد سوى أنا وأنت!”
أكملنا رحلتنا بالسيارة وكانت قد تبدّلت تعابير وجوهنا من حالة الخوف والهلع إلى حالة الصدمة والحزن على يوسف…
كان القصف ما يزال مستمراً على طول الطريق، ورأينا كيف أنَّ سكّان القرى المجاورة يركضون ويحاولون الهروب من لعنة القذائف… كانت أصوات النساء والأطفال تعلو بالبكاء… أغلب الناس كانوا يمشون حفاةً لشدة خوفهم…
شاهدنا شاباً يقفُ عند مفترق الطريق… أوقفنا وقال لأبي: “عمي إذهبْ من هذا الطريق… فإنهُ أمِن من القصف”. وهذا ما حصل… سلكنا الطريق… وفعلاً كانت آمنة، لا تسقط فيها الصواريخ…
أحسسنا أننا قد تجاوزنا الخطر في حينها… ولكنّ الخوف ما يزال يعشعش في داخلنا… لم نستطع تجاوز ذلك الخوف… كما لم نستطع تجاوز الصدمة باستشهاد جارنا يوسف!
بعد قرابة الساعة، وصلنا إلى القرية المجاورة حيثُ كانت أختي التي تسكن هناك بانتظارنا على طرف الطريق… مع أننا لم نخبرها بمجيئنا! لكنها كانت في الطريق، تسأل عنا كل مَن تراه قادماً من قريتنا…
بدأت أختي بالبكاء حين رأتنا… قالت أنها لم تتوقّع أن ترانا على قيد الحياة بعد كل الأصوات التي كانت تصدر من قريتنا… القرية التي تسكن فيها أختي تبعد عنّا مساحة عشر دقائق في العادة، لكن بسبب بحثنا عن طرقٍ أمنة لسلكها، بقينا ساعة كاملة حتى وصلنا إليها…
إلى اليوم، ما أزال لا أُصدّق كيف نجونا، وسط الصواريخ التي كانت تحيط بنا، ورائحة الموت التي كانت تفوح…
أكتبُ اليوم عن تلك الحادثة، كذكرى عبرت في محطات الموت والدمار التي نعيشها… أحمدُ الله أنني ما زلتُ بخير رغم قسوة ما مررنا به… وأتمنى أن يأتي اليوم الذي نكتبُ فيه عمّا يحدث في سوريا ككابوس مزعج قد مرَّ بنا، ثمَّ تجاوزناه بسلام…
لكنّ المرارة ما تزال تُسيطرُ علينا، فما رويته كان عن نزوحي الأول من قريتي… نزوحٌ بدأ بهروبٍ مفاجئ ثمَّ تحوَّل لنزوحٍ قاسٍ… رافقهُ نبأُ حزين باستشهاد جارنا يوسف، الذي كان أوَّلُ شهيد يسقط من قريتنا، لذا كان خبر استشهاده مدوّياً…
ريم سعيد (38 عاماً) ربّة منزل وأم لطفلة واحدة. ريم لاجئة الآن في تركيا.