نازحو الرقة، بين الموت من القصف أو الموت من البرد
(الرقة، سوريا) – تقف أم مرعي، وهي امرأة في الأربعينات من عمرها، وسط خيام مبعثرة على أرضية ترابية، بعد أن أنهت غسيل ثياب أطفالها بمياه دفأتها بالحطب. وتقول وهي تجفف يديها المرتجفتين بخرقة بالية “ليس لدينا بطانيات أو أغطية. الله وحده يعلم كيف نقضي نهارنا”.
أم مرعي لجأت مع أولادها إلى مخيم قرية العكيرشي (24 كم شرق الرقة) بعد نزوحهم من قرية بو جري شرق بلدة السفيرة ريف حلب التي سيطرت عليها القوات الحكومية في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2013، تلاها موجة نزوح نحو محافظة الرقة بشكل رئيسي لقربها من السفيرة وباعتبارها محافظة تسيطر عليها المعارضة بالكامل باستثناء ثلاث نقاط عسكرية هي “الفرقة 17″ و”اللواء 93” ومطار الطبقة العسكري. لكن قسماً كبيراً من النازحين تمركز في مخيمات بالقرب من المدن، بدلاً من السكن داخلها، وذلك “لخوفهم من استهداف النظام للمدن بالطيران الحربي، ولأن قسماً منهم معتاد على معيشة الخيام”، كما يقول أسامة الحمود وهو متطوع في “الهلال الأحمر” زار هذه المخيمات عدة مرات.
في محيط مدينة الرقة 11 مخيماً يتواجد فيها ما يزيد عن 800 عائلة، دون وجود أدنى مقومات العيش مثل مياه الشرب أو مركز صحي. يحصل أهالي المخيم على المياه من التجمعات السكنية القريبة منهم، وكذلك الوضع بالنسبة للكهرباء عبر تمديدها من الأعمدة القريبة من المخيم.
يعاني النازحون في المخيمات، وفق المكتب الإغاثي في مجلس مدينة الرقة، من وضع معيشي صعب حيث يعتمد غالبيتهم على المعونات بشكل رئيسي، إلا أن البعض منهم اتخذ من تجارة المحروقات المكررة في ريف الرقة مصدر رزق.
وجود النازحين في مخيمات بعيدة عن مراكز المدن يجعل استمرار أولادهم في التعليم أمراُ صعباً، خاصة في حالات النزوح المتعدد كما هو حال عائلة الطفل صطوف الحسن الذي لا يتجاوز الثامنة من عمره. لم يتمكن من دخول المدرسة بعد، ففي سن السادسة، التي كانت من المفترض أن تكون سنته المدرسية الأولى، اضطرت عائلته إلى النزوح من بلدة السفيرة إلى بلدة أخرى، ثم تلاها نزوح إلى الرقة والعيش في خيمة بالقرب من قرية العكيرشي. تقول أم صطوف: “لي ثلاثة أطفال اثنان منهم لم يتابعا تعليمهما، وصطوف لم يتمكن من دخول المدرسة بعد”. وتضيف وقد امتلأت عيناها بالدموع “ليس معنا قوت يومنا، ولم نستقر في مكان آمن وقريب من المدارس. هذان الأمران حالا دون متابعة أولادي تعليمهم”.
ليس الوضع الاقتصادي وكثرة التنقل وحدهما السبب في عدم متابعة بعض أطفال النازحين تعليمهم، فالخوف من استهداف المدارس كما حصل في أيلول/ سبتمبر كان عاملاً آخراً، تضاف إليه رحلة الطريق إلى المدرسة المحفوفة بالمخاطر مع ازدياد حالات خطف الكبار قبل الصغار في ريف الرقة.
أبو صالح لجأ مع عائلته من جبل البلعاس في ريف حماة، إلى العكيرشي منذ آب/ أغسطس لكنه لم يرسل ولديه صالح ومنهل إلى المدرسة لبعدها عن بيته. يقول أبو صالح: “رجلي مصابة منذ سنة ونصف بلسعة أفعى، ما أعاقني عن الحركة بشكل كبير، لذا لا أستطيع إيصال طفلي إلى المدرسة منذ لجأت إلى هذه القرية، كما أني لا أستطيع تركهما يذهبان بنفسيهما لخوفي عليهما”.
لكن على الرغم من الظروف الصعبة لم ينقطع بعض أطفال النازحين عن الدراسة والتحقوا بالمدارس القريبة من مكان اللجوء. أحمد الدحدوح (15 عاماً) لم يتمكن من تقديم الامتحانات الرسمية لصف التاسع نتيجة الأحداث في بلدته السفيرة، لكنه التحق الآن بمدرسة العكيرشي بعد لجوئه مع عائلته إلى الرقة ليتابع تعليمه. “ظننت أني لن أتمكن من إكمال تعليمي مجدداً”، يقول أحمد وقد ارتسمت الابتسامة على وجهه الطفولي.
إصابة عائلات اللاجئين بأمراض هو أمر معتاد، نظراً لبرودة الجو، خاصة بعد أن ضربت عاصفة ثلجية بلاد الشام في 12 كانون الأول/ ديسمبر، وقد نشرت تقارير عن وفاة رضيعة في مخيم الدبسي في ريف الرقة الغربي نتيجة البرد القارس.
لأحمد الدحدوح أخ أكبر منه بسنة اسمه حسين، وهو مصاب بشلل دماغي منذ الولادة. تقول أم حسين أنهم لم يتمكنوا من جلب أدوية له بعد نزوحهم لأن كل ما يهمهم الآن هو تأمين معيشتهم، وأسعار الأدوية مرتفعة بحيث “لا يمكن تأمين دواء وغذاء في آن لمن يعيش حياة التشرد”، كما عبرت.
المنظمات المحلية مثل “جمعية الخير” والمجلس المحلي” و”الهلال الأحمر” تقول إنها تبذل قصارى جهدها لمساعدة سكان المخيمات في أطراف الرقة رغم قلة إمكانياتها، ، خاصة في مخيمي المنصورة والبو حمد.
يقول مدير المكتب الإغاثي في المجلس المحلي لمدينة الرقة محمد المصارع: “كنا قد وجهنا نداء استغاثة للمنظمات الداعمة منذ الأيام الأولى للجوء نازحين جدد من السفيرة والسخنة كي لا نصل إلى هذه المرحلة، إلا أن هذا النداء لم يكن له صدى وتقبّل سوى بعض الوعود التي لم تتحقق بعد”. ويشير المصارع إلى أن “المنتدى السوري للأعمال”، وهو تجمع لرجال وسيدات أعمال معارضين، أرسل مساعدات عينية، كانت الأفضلية لتوزيعها على من يعيش داخل الخيام وفي البيوت المهجورة ومراكز الإيواء.
النازحون داخل المدينة ليسوا بأفضل حالٍ ممن سكن خارجها، فمنذ سيطرة قوات المعارضة على المدينة في آذار/ مارس أصبحت المساعدات توزع على كامل الأهالي في الرقة بعد أن كانت مقتصرة على النازحين، ما أضعف من حجم المساعدات. يقول أحمد وهو نازح من مدينة حلب ويسكن في مدينة الرقة “في الماضي كانت تأتينا مساعدات من كل مكان، الآن كأن الجميع نسينا ووجّهوا مساعداتهم إلى المخيمات فقط”.
فضلاً عن المخيمات ومراكز الإيواء يتواجد بعض اللاجئين في بيوت غير منتهية البناء، ما يجعل المعيشة أقسى في ظل برودة الشتاء. واحدة من هذه العائلات هي عائلة محمود الحميدي المؤلفة من زوجته وأولاده الثمانية التي نزحت من السفيرة. تعيش العائلة في بيت مهجور في أطراف الرقة غطيت بعض شبابيكه وأبوابه المكشوفة بأكياس نايلون، علها تخفف من البرد الذي يتسرب إلى البيت عبر الفتحات الكثيرة بجدرانه. وراء زوجة محمود يقف طفلها حسن ذو الخمسة أعوام، يخبأ عينه المصابة بشظية أدت إلى إغلاق مجرى الدمع. تقول أم حسن وهي تبكي: “ماذا بوسعنا العمل، لم نجد أفضل من هذا المكان في طرف المدينة، فهو رغم برودته أكثر أمناً من داخل المدينة فأولادي ذاقوا مرارة القصف كثيراً”، وعن موجة البرد التي ضربت المدينة في كانون الأول/ ديسمبر تقول أم حسن: “قضيت تلك الأيام أرتجف أنا وأولادي تحت أغطية خفيفة قدمتها لنا منظمة الهلال الأحمر، لكنها لم تكفِ أبداُ”.
يحاول بعض الناشطين في الرقة تأمين مركز إيواء بديل عن المساكن العشوائية تحت عنوان حملة “إغلاق المخيمات” وهي حملة تطوعية اعتمدت على جمع تبرعات من أصدقاء الناشطين في سوريا وعدة بلدان مجاورة. يقول طاهر مقرش، أحد أعضاء الحملة، “بدأنا بتجهيز مدرسة “درة الفرات” المهجورة منذ تحرير الرقة بسبب خلوها من أبواب وشبابيك وكهرباء وغيرها، ثم قسمنا أنفسنا إلى فريقين، فريق يقنع الأهالي في المخيمات بالسكن في المدرسة المجهزة، وآخر يستكمل تجهيز المدرسة”. لكن الاستجابة من قبل اللاجئين للحملة لم تكن كما توقعوا، فبحسب مقرش أعداد قليلة من النازحين وافقت على السكن في المدرسة المجهزة في حين رفض آخرون خوفاً من القصف، خاصة بعد تعرض مدرسة ابن طفيل التجارية في أطراف مدينة الرقة للقصف في 29 أيلول/ سبتمبر.
يحلم صطوف بالالتحاق بالمدرسة، إلا أن تحقيق هذا الحلم مرتبط بوضع النازحين واستقرارهم في مكان أكثر دفئاً وأماناً، وبعيداً عن مرارة التشرد. يقول صطوف: “أحب أن أذهب مع التلاميذ إلى المدرسة. أراهم كل يوم على الطريق”.