موعدنا كان يوم الأحد إنه الموعد المؤجّل
“دينوصور قال لدينوصورة: أعطيني قبلة، قالت له: لا أريد، قال لها: لهذا السبب انقرضنا”. كان صوتي يرتفع بضحكة عالية من القلب والروح كلما سمعت هذه الطرفة التي كانت متداولة بيننا. وكنت أجيبه بلؤم “روح نام”. أحببته بل عشقته وعشقت كل التفاصيل الصغيرة المتعلقة به، حتى حبه للون البني وللقطط. هو بدوره ما كان ينسى وردة الزنبق، معشوقتي الثانية، في كل مرة يراني فيها. كنا في مدينتين مختلفتين هو في دمشق وأنا في اللاذقية.
وبدأت الثورة ……
اختلفنا… انفصلنا … كلمني ليطمئن علي فأجبته أنني ذاهبة للمسيرة “انتبهي عحالك” أجابني . لم ادرِ لماذا أخبرته بذلك، أنا التي لم تذهب إلى مسيرة في حياتها ولا يعنيني الموضوع. عدنا نتكلم ونحلم ونبني مستقبل أطفالنا، إحدى خططنا كانت أن يأخذني سبيه بعد انتصار الثورة. لم تكن هناك داعش حينها ولا نصرة. أصبحت أخاف عليه أكثر من نفسي، وأنتظر الساعة الثالثة من كل يوم جمعة، ليخبرني بصوته المتعب انه عاد من المظاهرة. كنت كعادتي أحرد كلما تأخر في زيارتي. فيقول لي “نحنا تنين منحب بعض مو بحرب … خفي شوي والله الظروف صعبة”.
حينها لم أكن أعي عما يتكلم . مازلت أذكر الأسبوع الذي سافر به إلى درعا محاولاً تغطية الأحداث هناك. وعاد بفشل ذريع حيث لم يستطع تصوير شيء بسبب سوء الأوضاع. بعد مدة أخبرني أن العائلة التي استضافته استشهد كافة أفرادها بهجوم للطيران على المنطقة. ما زلت أذكر كيف أجهشت بالبكاء مرة لسماعي صوت ضحكته… هذه الضحكة التي حرمنا حتى من حق التمتع بها بين مظاهرة وتشييع وشهيد. وما زاد الوضع سوءًا هو وجود كل منا في طرف من الأطراف.
عرفت كيف تم “فرزنا عالهوية” عندما أخذ عسكري هوياتنا، نظر إلى هويتي حيث نفوسي اللاذقية وأعادها مع ابتسامة لطيفة. تمعّن في هويته وضع يده على كتفة وقال له: أنت حباب ما بتعمل مشاكل ما؟
أرسل لي باقة زنبق مع أحد أصدقائه إلى مكان عملي، كلمته وسألته “يعني ما حتجي ععيد ميلادك؟ ما بدك هدية؟” وعدني أنه سيأتي الشهر المقبل، أرسلت له الهدية. أشياء صغيرة لملمتها من ذاكرتي من بينها قرآن صغير للجيب.
سألني: هل تريدينه أن يبقى معي أينما اذهب ؟
أجبته: لا لا أريدك أن تذهب أرجوك ابق معي .
موعدنا كان يوم الأحد، موعد تأجل عدة مرات لسوء الأوضاع. حاولت الاتصال به يوم الخميس في 20 أيلول/سبتمبر 2012، كان خطه خارج الخدمة…مر يوم الجمعة ويوم السبت بدا ثقيل الظل. خطه مقفل، الهاتف الأرضي ينادي دون أن أسمع من الجهة الأخرى إلا الرنين المتواصل. سألت عنه أحد أصدقائه، أخبرني أنه ربما يكون ذهب ليحاول توثيق الأحداث. أحسست بالاطمئنان قليلاً، إذ أعلم أهمية الأمر بالنسبة له، وقد تكون القصة حدثت بسرعة، وربما لم يرغب بجدال عقيم لن ينتهي إلّا بحرد من قبلي لتأجيل الموعد.
لكن يوم الاثنين أتاني صديقه بأخبار أخرى. قال لي: أبو وليد أخذوه من منزله مساء الخميس. أتت دورية من الأمن، أخذوه وكافة أجهزة الموبايل في المنزل. واخذوا غيتاره على مرأى من والدته، التي وقفت عاجزة لا تدري ماذا تفعل تنظر لهم وهم يأخذون فلذة كبدها من أمامها.
قالوا لي في البداية عليكِ الانتظار 60 يوماً، فأصبحت أعدّ الأيام بالساعات والدقائق. ثم قالوا ستة أشهر. أخبرني صديقي أن حكمه قد يصل لخمس سنوات سجن، في حال تمت محاكمته . أخبروني أن أنتظر العفو الرئاسي، فمن الممكن أن يخرج بعفو ما. وهكذا مرّت سنتان، أصبحت أشعر بالبرد يعشش بقلبي، وصورته بين يدي من لا يعرفون الرحمة. هل يتعذب؟ هل يتذكر؟ هل ما يزال سليما؟ وأصبح خضوعه لمحكمة أو حتى معرفة مكانه أقصى طموحاتنا، هل لا يزال على قيد الحياة؟ أين هو؟
أتم السنتين و خمسة أشهر، لم تعد القصة قصة عودة الحبيب المعتقل… أصبحت قصة قيمتنا الرخيصة كبشر في بلاد الحكم فيها لصاحب المال والسلاح … قصة آلاف المقهورين والمغيبين … المقتولين والمدمرين… قصة أحلامنا التي نبنيها وننشأ عليها، ويخطفها منا بلمح البصر قانون الغاب في دولة رئيسها استلمها وراثة عن أبيه بانتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة.
حبيبي حمادة سأسمّي طفلي الذي أتمنى أن يكون طفلك باسمك …. أدعو الله ان تكون بخير وتعود.