من الميريديان إلى مهجع الموت

لطالما شعرت بفضول استثنائي لرؤية ما يحصل في أقبية فروع الأمن السورية؛ الروايات التي قرأتها عن تجارب معتقلين سابقين قبل انطلاق الثورة عام 2011، والقصص التي سمعتها من أصدقاء وأقارب خاضوا التجربة بعد مظاهرات شهر آذار/مارس من العام نفسه، ضاعفت من رغبتي بالاطلاع بشكل مباشر على وضع لا يمكن وصفه إلا بأنه عار على البشرية.

لم أكن أعلم أن صدفة بحتة ستقودني لخوض تجربة الاعتقال لمدة يوم واحد فحسب؛ تجربة قد لا تتاح كثيراً لصحافي لو تمناها، ولا يعرف تفاصيلها من لم يختبر أنفه الروائح الكريهة أو لم يرَ بأم عينه كيف يتكدس عشرات من المعتقلين في مساحة لا تتسع لربع الموجودين.

داخل أحد المهاجع في سجن حمص - "مدونة مختارات من الثورة" السورية"
داخل أحد المهاجع في سجن حمص – مدونة مختارات من الثورة السورية

بدأت الصدفة عندما اشتبه أحد العناصر عند حاجز أمني في دمشق بهويتي، كوني من إحدى المدن الثائرة. قادته شكوكه إلى استدعاء دورية من الفرع، نقلتني إلى مركزها. وعند رؤية مقطع تافه نسيته في جوالي، يظهر طفلاً يشتم بشار الأسد، بدأ المحقق استجوابي بشكل أوسع، لينتهي التحقيق بنقلي إلى مهاجع المعتقلين في قبو مخصص لهم. لا بد من الإشارة إلى أن ثمن اكتشاف المقطع في جوالي كان أربع صفعات وثلاث لكمات، تسببت إحداها في انتفاخ عيني لأصبح أشبه بشخصية كارتونية.

في صالة التحقيق الواسعة، وقبيل الوصول إلى المهاجع، حيث كنت أقف منتظراً دوري وعينيّ معصوبتين. تناهت إلى سمعي الأصوات الصادرة من غرف التعذيب؛ لم تكن أصوات ألم بشري، بل بدت أشبه بزئير وحوش تخرج منها أرواحها.

مع الاقتراب من الباب العلوي، الذي تنتهي أدراجه إلى مهاجع الاعتقال، زكمت أنفي رائحة عفن. عرفتها فوراً؛ هي رائحة الاعتقال، التي سبق وأن خبرتها إثر معانقتي صديق قضى ستة أشهر في أقبية النظام. كان يقودنا أنا والدفعة التي وصلت معي مساعد أول، طلب من مسؤولي المهاجع إحضار “الميت”. ابتسمت في سري، معتقداً أنه يحاول إخافتنا لا أكثر. لم تمضِ دقيقة وكان بعض المعتقلين يحملون جثة أحد زملائهم تنكشف من تحت غطاء بني. كانت الجثة لبقايا إنسان أنهكه الجوع والمرض، تنتشر البقع الجلدية عليها من الرأس حتى أخمص القدمين، فيما لم يبقَ من المتوفى إلّا عظام يكسوها الجلد.

البقع الجلدية هذه رأيت لاحقاً ما يشبهها وما هو أفظع منها بمجرد أن خطت قدمي داخل مهجع “الموت”، كما يطلق عليه المعتقلون؛ 164 معتقلاً في غرفة واحدة لا تزيد مساحتها على ثلاثين متراً مربعاً. المعتقلون القدماء متكئون على الجدران، بينما يشكل الباقون كومة بشرية في باقي مساحة الغرفة. حينها ضحكت في سري وأنا أقارن بين قاعة في فندق ميريديان بيروت حيث أجريت امتحاني صباحاً وبين مهجع الموت حيث سأقضي ليلتي.

في الليلة الوحيدة التي قضيتها في الاعتقال، سمعت قصصاً ورأيت مشاهد لم ولن تفارق مخيلتي ما حييت: معتقلون أحداث، جلبتهم حملات مداهمة أو حواجز عسكرية للنظام من المناطق الثائرة، بعضهم قارب الجنون أو جُنّ فعلياً، وبعضهم بلغ به المرض ما بلغ. كان الأكثر إيلاماً بالنسبة إلي أن المهجع تحول نتيجة الظرف غير الإنساني ونتيجة الازدحام الخانق إلى غابة البقاء فيها للأقوى. كل بضع دقائق تنشب معركة بين اثنين حول مسألة غاية في التفاهة، كأن يدوس أحدهما على قدم الآخر. من أكثر الحالات المؤثرة، معتقل حدث لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره، كان يبول في مكانه بشكل لا إرادي كل عدة ساعات. وكأنّ مشكلته هذه لم تكن كافية، كان ما أن يفعلها حتى تنهمر عليه صفعات زملاء المهجع.

قادتني الصدفة لأكتشف أن أحد معارفي معتقل في الفرع ذاته. سمعت منه الشهادة الأقسى كونه ينام على باب مهجعه المطل على البوابة الرئيسية. قال لي إنه في 22 يوماً قضاها حتى لحظتها، تمكن من إحصاء 44 جثة لمعتقلين قضى معظمهم بتأثير الأمراض المزمنة، حيث لا طبيب ولا دواء.

يوم واحد، قرروا بعده الإفراج عني. لا أعرف لماذا كانوا رحماء معي، لكني أعرف أن القدر كان حليفي. اجتمع حولي بسرعة عدد من المعتقلين، لتزويدي بأرقام هواتف أهاليهم من أجل أن أطمئنهم. استلمت أغراضي الشخصية ناقصة من بعض الأثمن، عرفت من المحقق أنني “مواطن صالح” قبل أن تفتح بوابة لا تكشف من الخارج عن أهوال ما يجري خلفها.