من الحسكة إلى دمشق: عن معجزة قلما تحدث
لم يعد التفكير بالسفر من محافظة الحسكة إلى دمشق بالأمر السهل في ظل الاشتباكات المتواصلة التي يشهدها الطريق الطويل بين المنطقتين. ويزداد الخطر بسبب الحواجز الأمنية التي تنتشر في محيط العاصمة وداخلها، والتي يقدّر عددها حالياً بأكثر من 300.
لا أعلم كيف أصبحت الحال على هذه الطرقات ولا داخل دمشق، إلا من خلال ما ينقله الأصدقاء ووسائل الإعلام، إذ لم أزر العاصمة منذ شهر أيلول/ سبتمبر من العام الماضي. عندها كانت الأحوال الأمنية في العاصمة وحولها آخذة بالتدهور لتصل إلى ما هي عليه اليوم.
في الأحوال العادية يمر الطريق بين الحسكة ودمشق إما عبر حلب، أو عبر دير الزور ومن بعدها تدمر. إلا أن وقتها، وبسبب خطورة الطريقين المعتادين، اضطررنا إلى سلوك طريق طويل يمر بمحافظة الرقة ثم أطراف حماة وحمص، يعرف بطريق السَّلمية.
لم أستطِع أن أغلق عينيّ طوال الرحلة. الطريق إلى مدينة الرقة كان خالياً أي وجود أمني باستثناء حاجز تابع للنظام عند مركز “الكنطري”. اتجهنا بعدها نحو مدينة الرقة، بعيداً عن ريفها الذي كان ملتهباً منذ فترة. داخل المدينة، وعلى رغم انتشار صور حافظ وبشارالأسد على المباني، كان هناك عدة حواجز أمنية تقطع أوصال المدينة وتنبئ بأن شيئاً ما قد تغير. فقد كانت المدينة بدأت تشهد قبل أشهر مظاهرات لم يتوقعها النظام. أوقفتنا ثلاثة من هذه الحواجز، عندما دخلنا المدينة وفي وسطها وعندما خرجنا.
في ريف السلمية، بدت على الجدران في بعض القرى شعارات مناهضة للنظام. في محافظة حمص كانت معظم القرى خالية من سكانها بعد أن أصبحت بيوتها ركام. سيطر ذلك المنظر على الطريق حتى مشارف دمشق.
كان الطريق بين الحسكة ودمشق مزروعاً بنقاط تفتيش يديرها عناصر أمن النظام، وقد فصلت بين هذه النقاط مسافات متقاربة. مررنا بثلاثة وعشرين حاجزاً أمنياً، واختلفت طريقة تعامل العناصر من حاجز إلى حاجز. بينما لم يطالب البعض منهم بإيقاف الباص الذي كنا نستقله، كان البعض الآخر يتشدد في التدقيق في هويات المسافرين. مَن كان في عمر تأدية الخدمة العسكرية كان يخضع لتدقيق إضافي لا ينتهي إلا بإبراز إذن إجازة إذا كان عسكرياً أو وثيقة تأجيل الخدمة إذا كان طالباً.
الطريق الذي سرنا به والذي من المفترض أن يوصلنا إلى دمشق في سبع ساعات استغرق إحدى عشرة ساعة من السفر المتعب.
في تمام الساعة السادسة مساءً وصلنا مشارف دمشق. كان المشهد مريباً جداً، فكانت هناك أعداد هائلة من الجنود يقفون بجانب المدافع والدبابات، ويخضِعون الداخلين لتفتيش دقيق، اضطررنا بسببه إلى التوقف عند مداخل دمشق ساعة كاملة. ذكرني هذا المنظر بما كنا ندرسه في كتب التاريخ عن القوات الفرنسية التي احتلت دمشق بعد قصفها.
وأخيراً وصلنا دمشق. شعرت وكأني لم أعش فيها البتة. كانت مقطعة الأوصال، بين كل منطقة ومنطقة نقطة تفتيش تستوقف المارة. ما إن حل المساء، حتى بدأت الشوارع تفرغ، إذ بدأ الناس يعودون إلى منازلهم والمحال التجارية تغلق أبوابها.
عدت إلى الحسكة في الصباح التالي بسبب خشيتي من السفر مساءً. لم نخرج من دمشق عبر الطريق المعتاد بسبب وقوع اشتباكات على طريق حرستا، ما أجبرنا على سلوك طريق آخر. عند وصولنا إلى مشارف “مشفى تشرين العسكري” كان هناك حاجز أمني وعسكري مشترك. ما إن أوقفنا العناصر حتى طلبوا منا السير بسرعة ولم تكن إلا دقائق حتى نزلت فرقة عسكرية وراءنا، وبدأنا نسمع أصوات اشتباكات قوية. تجددت هذه الأصوات عند مشارف مدينة حمص، حين بدأنا نسمع سقوط القذائف على مدينة القصير.
في الطريق إلى دمشق، أخبرني السائق أنه قبل عدة أيام نفذ هو وركاب الحافلة من موت محتم عندما وقعت اشتباكات بين الجيشين الحر والنظامي على أطراف مدينة حمص.
“لم أتمكن من توقيف الحافلة بسبب السرعة ولكن معجزةً أنقذتنا،” قال السائق.
منذ زيارتي وحتى الآن، لا تنفك الأوضاع الأمنية تزداد سوءاً. ثمة عدد متزايد من السوريين في دمشق وخارجها ينتظرون معجزة مثل تلك التي أنقذت السائق، ولكن دون جدوى.