منتهى الحسو: عندما تتحدى المرأة السورية الموت

يتذكر أهالي دير الزور منتهى الحسو، المتطوعة التي خسرت حياتها بعد أن رفضت مغادرة المدينة المحاصرة.

خالد الطه

(دير الزور، سوريا) – تُوصف مدينة دير الزور شرقي سوريا بأنها مدينة مُحافِظة، لا تحظى المرأة فيها بفرص واسعة للمشاركة في الحياة العامة. ولكن بالرغم من ذلك، تعتبر المرأة مصدر فخر لعائلتها عندما تتحمل ظروفاً قاسية، يعجز كثير من الرجال عن تحملها. لعل الشاهد على ذلك وصف أبناء هذه المدينة من الرجال، على سبيل المديح، بأنهم “إخوة بطة”، نسبة للثائرة التي شاركت في مواجهة الاحتلال الفرنسي في الثلاثينات.

إحدى سيدات دير الزور اللواتي كان لهن دور هام في الثورة الحالية هي الناشطة منتهى حسو، التي تطوعت للعمل في أحد المشافي الميدانية في ظروف صعبة أثناء القتال بين المعارضة والنظام، قبل أن تنهي رصاصات القنص حياتها قبل أكثر من عام.

صورة لمنتهي الحسو أثناء استراحة من عملها في المستشفى. تصوير الناشط الإعلامي من دير الزور أبو دانيال
صورة لمنتهي الحسو أثناء استراحة من عملها في المستشفى. تصوير الناشط الإعلامي من دير الزور أبو دانيال

 دير الزور، التي يصفها الكثير من أبنائها بأنها مهمشة، شاركت بقوة في المظاهرات ضد نظام الرئيس بشار الأسد. تلا ذلك انتشار قوات المعارضة في أحياء المدينة  في حزيران/ يونيو 2012. أكثر من نصف أحياء المدينة توصف بأنها “محررة” نسبة لخروجها عن سيطرة قوات النظام.

تعرضت هذه الأحياء لقصف مكثف من قبل القوات النظامية، دفع بالكثير من سكانها إلى النزوح نحو المحافظات الآمنة. شهدت المدينة نتيجة لذلك نقصاً حاداً في الكوادر الطبية، من أطباء وممرضين وصيادلة، ولم يتبقَّ أكثر من ثلاثة جراحين، وعدد من الأطباء العامين، وطلاب في كلية الطب البشري، فانضم العديد من أهل المدينة إلى العمل الطبي، كلٌ حسب مقدرته.

في هذه الظروف تطوعت منتهى الحسو، وهي أرملة تربي تسعة أولاد. كانت منتهى تنظف الدماء التي تنتشر في جميع أرجاء المشفى نتيجة العدد الكبير من الجرحى، وتقدم العون إلى الجرحى الذين لا يستطيعون الحركة، عدا عن مساعدتها الأطباء والمسعفين، وتحضير الطعام، والعديد من الأمور الأخرى.

الناشط الإعلامي المعروف باسم أبو دانيال، والذي تواجد لفترات طويلة في المشفى، يصفها بأنها كانت “مثل النحلة”، لا تتوقف عن العمل. يقول أبو دانيال: “كنا نتعجب لأمر هذه المرأة، وإصرارها على مواصلة العمل… وزادت دهشتي عند معرفتي بأن منتهى أرملة، تعيل تسعة أطفال”.

 ويضيف: “لم أحظَ إلا بصورة واحدة لهذه المرأة الجبارة. كان على الأطباء الذين تخلوا عن واجبهم تجاه أهل هذه المدينة أن يتعلموا منها معنى كلمة إنسانية”.

اشتدت الحملة العسكرية على مدينة دير الزور بين أيلول/ سبتمبر وكانون الأول/ ديسمبر من العام 2012، وسميت المعارك في تلك الفترة “حملة  الحرس الجمهوري”. وقعت المدينة تحت حصار محكم، تسبب في نزوح من بقي من سكانها المدنيين، وكثير من الناشطين، إلا أن منتهى أبت الخروج والتخلي عن واجبها الذي تعاظم.

يقول أحد الأطباء الميدانيين، الذي يعرّف عن نفسه باسم الدكتور ملحم: “رفضت منتهى عرضنا بإخراجها من المدينة مع آخر قافلة، قبل أن يشتد الحصار. كانت منتهى أخت كبرى لجميع العاملين في المشفى”. ويضيف الدكتور ملحم أن منتهى كانت لا تأخذ أي مكافآت مادية على عملها إلا بعد الكثير من الاصرار، رغم أنها على الأرجح كانت تحتاج إليها.

بعد إنهاء عملها كل يوم، كانت منتهى تعود وحيدة إلى بيتها في ساعات متأخرة من الليل في حي الجبيلة الشعبي، الذي اعتبرته قوات المعارضة أيقونة للصمود في مدينة دير الزور. مثل من تبقى في المدينة، كانت منتهى تواجه مخاطر القصف المكثف، وانتشار القناصين.

 أبو حسين أحد عناصر الكتائب المقاتلة في المدينة، أصيب في تلك الفترة، وحظى كغيره من الجرحى بالعناية من قبل منتهى. يقول أبو حسين: “كان لمنتهى قوة عجيبة، فكان بإمكانها أن تساعد شاب يبلغ وزنه حوالي 80 كيلوغرام وحدها”.

 ويضيف: “كنت أعاني من كسور في ساقي اليسرى، وشظايا في البطن، فكانت تساعدني في النهوض والحركة عندما لا أجد أحداً بجانبي، كما كانت لا تتوانى عن إعداد “الشوربة”، وهي من شبه المستحيل الحصول عليها”.

أثناء عودة منتهى لمنزلها بعد يوم عمل شاق في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2012، أصابها قناص برصاصتين جعلت حياتها على المحك، فنُقلت إلى تركيا لتلقي العلاج. أوصت من تعرفهم بالعناية بكل من أطفالها والجرحى. بعد خمسة أيام، وصل الخبر الصاعق إلى المدينة: ماتت منتهى. كان ذلك قبل ثلاثة أيام فقط من تمكن المعارضة من تخفيف الحصار على المدينة عبر السيطرة على جسر يربطها بريفها، وهو ما لم تتمكن منتهى من أن تشهده.

 بعد مسيرة حافلة بالعمل الإنساني في ظل الحصار والحرب، لم يبقَ أثر لمنتهى سوى الصورة التي التقطها الإعلامي أبو دانيال  في المشفى أثناء استراحتها من العمل. أطفالها الآن خارج المدينة، بعد أن نزحوا مع أقربائهم. ولكن العناية التي قدمتها منتهى لعشرات الجرحى ستبقيها حية في أذهانهم. يقول المقاتل الجريح أبو حسين:

“كغيري من المقاتلين، فقدتُ أفراد عائلتي التي نزحت خارج المدينة، فكانت منتهى التي تكبرنا في السن كأخت كبرى، تقدم لنا المساعدة وتعطينا المحبة والحنان”.