مقاهي دمشق تعيش على وقع الحرب
رهيف غانم
(دمشق، سوريا) – تشهد مقاهي دمشق موجة هجرة الزوار بسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية التي تعيشها سوريا منذ أكثر من عامين ونصف العام، ولكنها وبالرغم من العنف الحاصل والذي جلب الكثير من الشقاء للبلاد مازالت تفتح أبوابها.
رواد هذه المقاهي اعتادوا أصوات القذائف التي لم تعد تدفعهم للمغادرة بل غالباً تدفعهم للبقاء أكثر، وحدها العمليات الانتحارية تجبرهم على العودة إلى منازلهم خوفاً من تزامنها مع عمليات أخرى أو تخوفا من موجة اعتقالات تعقبها عادة.
مقهى »الهافانا« الذي تأسس عام 1945 في الجهة الغربية من شارع فؤاد الأول، كان يعرف قديماً بـ”مقهى السلوان” وفي أواخر السبعينات كان سيحال إلى محل ألبسة حينها قاد بعض المثقفين والأدباء حملة أثمرت بقاء “الهافانا” الذي أصبح يعرف بمقهى الأدباء.
أبو محمد أحد العاملين في المقهى منذ سنين يتحدث عن خصوصية هذا المكان التي تكمن في أنه “كان وما زال يضم نخبة من كبار المثقفين والسياسيين والفنانين والشعراء والصحفيين وأساتذة الجامعات, إضافة إلى تواجد أناس عاديين”. وعن تأثر المقهى بالأزمة التي تعيشها البلاد يقول “يبقى هذا الأثر نسبياً من حيث العدد وخاصة في أوقات المساء نتيجة للأوضاع الأمنية السائدة فقد انخفضت نسبة إشغال المقهى إلى النصف تقريبا ، في حين يشتد الإقبال في فترة الظهيرة “.
من جهته يقول أبو إبراهيم (58 عاماً)، وهو أحد زبائن مقهى الهافانا الدائمين: “أستمتع يومياً بمشاهدة أنواع مختلفة من الزوار يتناقشون في أمور حياتية وخصوصاً المتصلة بالأزمة إذ أتمكن أحياناً من معرفة أخبار عديدة على لسانهم وهذا الأمر يسعدني بشكل كبير لأنه يعكس الواقع الحالي الذي نعيشه وكيف بإمكاننا الجلوس مع بعضنا بعضاً على الرغم من اختلاف وجهات نظرنا في أمور عديدة”. رغم ما يقوله أبو ابراهيم إلّا أن الجميع يتجنب الحديث في السياسة من وجهة نظر معارضة في المقاهي لخوفهم من أن يسمعهم احد المراقبين او المخبرين. فهناك العديد من رجال الامن يتخفون بهيئة عمال في المقاهي أو حتى زبائن، وقد جرت العديد من حالات الاعتقال في المقاهي.
على بعد خطوات من مقهى »الهافانا« يقع مقهى «الكمال» الشعبي والذي يتميز بأسعاره الزهيدة وكونه أحد المقاهي النادرة الذي ما زال يفتح أبوابه حتى وقت متأخر من الليل برغم كل الظروف الأمنية، وفي ظل غياب كامل للعنصر النسائي يجتمع بعض المراهقين في المقهى حول إحدى الطاولات يلعبون الورق “الشدة”، وفي الجانب الآخر يتناول عدد من المسنين الأحاديث اليومية ويشربون الشاي وينبعث دخان “النرجيلة” من صدر المقهى حيث يجلس رجل طاعن في السن يحاسب الزبائن ويراقب العمل .
“المقهى عمره عشرات السنين و لا يقتصر زواره على الأدباء والمفكرين والشعراء بل يضم جميع شرائح المجتمع، حيث لم يتأثر نشاط المقهى كثيرا بالأزمة، بل يشهد المقهى إقبالا كبيرا بدءًا من السابعة صباحا وحتى التاسعة مساء إلا أن زواره لا يشغلون إلا عددا قليلا من الطاولات مقارنة بامتلائه في مثل هذه الأوقات من السنة” هذا ما قاله أحد المسؤولين عن هذا المقهى الذي يعد من معالم دمشق القديمة.
أما مقهى «الروضة» الذي ما يزال قائماً في شارع العابد، فقد كان في أواخر الخمسينيات مقصداً لرجال السياسة ونواب البرلمان السوري لقربه من مبنى البرلمان، ومن الطبيعي أن تدور هناك أحاديث في السياسة وشؤون البلد والناس. إلّا أن شاشة التلفزيون في هذا المقهى كما غيره من مقاهي دمشق لا تعرف غير محطات الأخبار الموالية للنظام مثل شام اف ام، قناة سما والاخبارية السورية.
في حي «ساروجة» التاريخي أمام مداخل الفنادق تنتشر مقاهي الرصيف بشكل كبير، في هذه المقاهي يجد الشباب متنفساً لهم. منال وهي طالبة جامعية ترتاد أحد هذه المقاهي مع زميلاتها بشكل شبه يومي للتباحث في الأمور الدراسية والحياتية وللترفيه أيضاً عن النفس. وتقول منال “لا نقبل بالدخول إلى مقهى لا توجد به أركيلة فهي مطلب أساسي بالنسبة لنا في كل جلسة، على الرغم من معرفتنا المسبقة بأضرارها الكبيرة على صحتنا، ولكننا نجد فيها وسيلة للترفيه عن النفس وتمضية للوقت”.
ورغم الظروف التي تمر بها البلاد ومع حلول فصل الخريف تعيش المدينة القديمة وخصوصا منطقة باب توما حياة عادية، حيث تشهد إقبالا من مختلف الفئات العمرية يأتون للاستمتاع بأجواء وسحر المدينة القديمة..
ومن زوار هذه المنطقة ريم (30 عاماً) وهي موظفة “آتي إلى هنا في كل يوم جمعة للقاء الأصدقاء وبالرغم من الأحداث المؤلمة التي تشهدها سوريا إلا أن حب الحياة وإصراري على الاستمرار هو من يدفعني للمجيء إلى هنا ومتابعة حياتي الطبيعية، هذا بالإضافة إلى عشقي للمدينة القديمة وتعلقي بها”، مشيرة إلى أنها تأتي أحيانا أكثر من مرة في الأسبوع للترفيه عن النفس وإلقاء هموم الحياة، هنا حيث أجواء دمشق القديمة ورؤية الناس يتوافدون في الأزقة وأصواتهم وضحكاتهم وهي تضج بالحياة تملأ نفسها بالتفاؤل.
أحد أصحاب الحانات في دمشق القديمة لبناني في العقد الرابع ويدعى ميشال يقول “اعتقدت في البداية أن الانتفاضة لن تستمر إلا أشهرا قليلة وان السوريين الذين يعشقون الحياة والاحتفالات سيتعبون سريعا, لقد أخطأت بذلك , في ما مضى كانت الأمور تسير بشكل رائع، وكان كل الشبان الأثرياء يقصدوننا. ولكن مع استمرار الثورة، غادر هؤلاء إلى بيروت أو إلى بلدان أخرى, واليوم، ينتمي زبائننا إلى الطبقة الوسطى.أنهم شبان تتراوح أعمارهم بين 25 و35 عاما يرغبون بالاسترخاء وبالتفكير بأمور أخرى غير الحرب، رغم انه فور خروجهم من هنا، يستعيدون صوت المدافع” وعن واقع العمل يجيب, “مازلت قادرا على تأمين رواتب الموظفين لدي ربما لا اربح الكثير لكنني لا اخسر, إذا وصلت الحرب إلى قلب دمشق سأحزم أمتعتي وارحل. لكنني سأفعل ذلك رغما عني. فأنا اعشق هذه المدينة”.
بعد أن فقد عمله بسبب الأوضاع الاقتصادية لم يعد لـدى باسل ( 28 عاماً ) مكان آخر يذهب إليه سوى المقاهي، حيث أصبحت جزءاً مهماً من حياته حيث يقضي فيها ساعات طويلة برفقة أصدقائه قائلاً “لقد مللنا الجلوس في المنازل فنحن نأتي إلى هنا يوميا لأنه المتنفس الوحيد لنا بعيداً عن شاشات التلفاز المليئة بالإخبار السياسية وصور القتل والتدمير”.