ما زالت تبكيه بحرقة وتنتظر بلهفة أن يعود
بعد اعتقال أكثر أفراد عائلتي اضطررنا لمغادرة المدينة في 24 كانون الثاني/يناير 2012، النظام أصبح يجنّد الشباب كشبيحة برواتب مغرية. كان الموضوع علنياً، بتنا نميز الشبييح وكاتب التقارير بسهولة. لم يكن ليخلو أي حي أو عمارة منهم. إنهم أحقر من في الدنيا، وأنجس بني البشر.
عانينا وغيرنا الكثير بسبب الشبيحة، فالاعتقال بالنسبة لهم كشربة الماء، لا يتوانون عن اعتقال امرأة أو فتاة، صغير أو كبير، ولأي سبب تافه. ما كان يهمهم إلّا مصلحتهم. تلك الحرة التي اقتادوها من شارع القصور كان معها كمبيوتر محمول، وما كان هدفهم من اعتقالها سوى سرقة ما تحمل. كالوا لها التهم وألصقوا بها الأعمال الإرهابية ليرموها في معتقلاتهم، وبعد عدة أسابيع، لم تعد تريد شيئاً سوى حريتها. ها هم أهلها لايعرفون مصيرها. يسألون عنها هنا وهناك. يذهب ابنها اليافع إلى فرع المخابرات، حيث قيل له إنها معتقلة فيه، فيزجون به بزنزانة، يبقى بعدها سنتين رهن الاعتقال والتعذيب حتى يُعلن خبر وفاته. وما أكثر هذه القصص.
تركنا المدينة، ننشد الأمان بعيدا عن أولئك الأوغاد. في الغربة تعرفنا على الكثير الكثير من السوريين. جميعهم حالهم كحالنا، تركوا بيوتهم وأوطانهم هربا من الشبيحة. لم أكن أتخيل أن ما كنا نسمعه من قصص الظلم والقسوة والإهانة كلّها حقيقية. والحقيقة أن ما سمعناه أقلّ بكثير من الواقع.
صديقتي من إحدى قرى ريف اللاذقية، أم لولد وثلاث بنات، كبيرتهن في العاشرة من عمرها، وصغيرتهن في الثالثة. حدثتني صديقتي قائلة: “بعد اعتقال زوجي ثلاث سنوات أعدموه. جاءنا خبر إعدامه في شهر تموز/يوليو 2014. طفلته الصغيرة لم يرها، هو ضابط ومهندس طيار اعتقلوه حين كان يفخخ إحدى الطائرات الحربية. لا أعرف كيف استطعت الهرب مع بناتي. كانت رحلة شاقة إلى ان وصلت إلى منطقة محررة، ومن ثم لحقت بأهلي في تركيا. صديقتي هذه خريجة كلية التربية. بحثت كثيراً عن عمل تسد به رمق صغيراتها. عملت في قطاف القطن طوال الموسم بأجر زهيد وجهد مضنٍ. نجحت أخيراً في إيجاد عمل في إحدى المدارس. وهي الآن تتابع رحلة شقائها وتعبها.
سيدة أخرى من بانياس، ومن البيضا بالتحديد. من منا لا يذكر أحداث البيضا، حينما دخل “جيش الأسد” إليها وراح يذبح أبناءها. كان نصيب عائلتها ذبح الأب العجوز مع ابنيه الشابين على مرأى أخيهم، الذي هو زوجها. ما أفقده عقله وأصبح مريضاً نفسياً بحاجة العناية والدواء، بعد أن كان طبيباً يعمل في مشفى ميداني سراً، مع مجموعة ناشطين. كان “الشبيحة” يلاحقونهم ويضيقون عليهم، إلى أن استطاعوا الهرب مع أبنائهم الثلاثة الصغار باتجاه تركيا أيضاً. ومع صعوبة علاج زوجها وتأمين عمل قرروا الهجرة. باعوا بيتهم الذي يملكونه في بانياس، بسعر زهيد جداً من أجل تأمين مصاريف رحلتهم عبر البحر إلى أوروبا. علّهم يجدون العلاج والعمل ومستقبلاً لأبنائهم الصغار.
تتبع قرية البيضا منطقة بانياس الواقعة شمالي محافظة طرطوس. وتطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وكانت القرية من أوائل المناطق التي انطلقت منها الثورة السورية بعد درعا. حدثتنا تلك السيدة عن المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 248 شخصاً، ووقعت مطلع مايو/أيار 2013، على يد قوات النظام والعناصر التابعة لها. تقول تلك السيدة عن وقائع المجزرة “جمعوا الرجال والأطفال والنساء في مجموعات متفرقة، ومن ثم قاموا بقتلهم وحرقهم وذبحهم بأبشع الطرق. كان قتلاً عشوائياً، لم يهمهم لا جنس ولا سن. كانوا يعاقبوننا على موقفنا من الثورة بعنف لا مثيل له. حتى الجرحى تمت تصفيتهم. قمنا بجمع الجثث
ودفنها في مقابر جماعية. نزح أهل قريتنا بعد اعتقال الشباب والشابات الذين لم يطالهم الحرق والذبح. أكثر من 500 عائلة خرجت من قريتنا وكنا معهم.
في الغربة تعرفت على أم محمد، هي من مدينة سراقب في محافظة إدلب. سيدة خمسينية فقدت بصرها من كثرة البكاء على ابنها محمد. الجندي المنشق، والذي لا عرف عنه شيئاً منذ ثلاث سنوات. شاهدته للمرة الأخيرة في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2012. يوم أغارت طائرات حربة على مدينة سراقب، وخلّفت الكثير من الخراب والدمار والموت. ولكنها لم تجد جثة محمد بين جثث الشهداء. وها هي تنتظره مع طفليه الصغيرين، حيث أن زوجته استشهدت في ذاك اليوم. وجدوا جثتها وهي تحمل بيدها عدة أرغفة خبز، قوت ولديها، ولكنها لم تعد اليهما. أخذت الجدة الطفلين، وذهبت عند ابنتها في الريحانية بانتظار محمد. هي لا تصدق أي خبر ينبئها بعدم انتظاره. و ما زالت تبكيه بحرقة وتنتظر بلهفة ويقين بأنه سيعود.
بهجة معلم (22 عاماً) من مدينة إدلب، كانت تصور المظاهرات وتنشرها على اليوتيوب، وتقود المظاهرات النسائية. اعتقلت مع أخيها وأبيها ليومين. تركت دراستها في العلوم السياسية ولجأت مع أهلها إلى تركيا.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي