مات والدي بعد حفلة عيد مولدي

رجل مسن سوري يمشي بالقرب من القبور في أحد أحياء مدينة درعا جنوب سوريا

رجل مسن سوري يمشي بالقرب من القبور في أحد أحياء مدينة درعا جنوب سوريا

"كان يوم ذكرى مولدي وقد أتممت 14 عاماً. أقام لي أبي حفلة للمناسبة. كنت مدللة كثيراً لديه. بعد الإحتفال بساعات قليلة أصبح الفرح الجميل مأساة عزاء وحزن. "

تطحننا الحياة مراراً وتكراراً، تضعنا في مواقف تجبرنا على التصرف بغير طباعنا. في العام 2016 انتسبت إلى إحدى المدارس السورية المؤقتة في مدينة انطاكيا حيث كنت قد استقريت مع عائلتي.

حين بدأ العام الدراسي وجدت كل شيء جديد ومختلف بالنسبة لي. لم أكن أعرف أحداً. مرت عدة أيام تعرفت فيها على صديقات جدد، لكنني لم أختلط بهن كثيراً. كنت مرغمة على الانتساب لهذه المدرسة. خلود كانت إحداهن وهي من مدينة حلب. كانت تتصرف بطريقة غير لائقة مما لفت نظري إليها.

كانت طفولية بعض الشيء في طريقتها. تصرفاتها لا تليق بفتاة بعمرها. لم أحب الإختلاط بها أبداً، أو الإقتراب منها. في حين أنها كانت كثيراً ما تحاول التحدث إلي ولباقي الطالبات. لكنها لم تكن مرغوبة بينهن. غير مهتمة بالتعليم، كل ما كان يهمها هو ملاحقة صيحات الموضة ومواقع التواصل الإجتماعي.

ذات مرة طلبت مني حسابي على الفيس بوك، ورقمي الخاص.ولكني لم أكن أملك حساباً أو رقماً خاصاً في ذاك الوقت. عبّرت عن دهشتها لهذا الأمر. وبدا كما لو أنه من التخلف ألا أملك حساب فيس بوك أو رقم   هاتف خاص بي.

وبعد إنقضاء أشهر على بدء العام، بدأت أعتاد على المحيط. أصبحنا نتعرف على بعضنا البعض وأصبحت أختلط مع صديقاتي شيئاً فشيئاً. صاحبت بعضهن. خلود كانت دائماً تحاول أن تثير المشاكل بين الفتيات وبين المعلمات. لم تكن تصرفاتها طبيعية أبداً، فلم يسلم أحد منها.

في إحدى الجلسات ولم يكن عندنا أي مادة، كنا أنا وصديقاتي.  توافقنا أن كل واحدة منا ستروي قصتها وكانت خلود في الجلسة. حان دور خلود فالتفت الجميع إليها يريد معرفة قصتها. وما هي حقيقة تصرفاتها الغريبة التي تظهرها مرات كفتاة جيدة ومرات سيئة التصرف معنا.

صمتت خلود وسالت دموعها بحرقة. عمّ الصمت وأصبحنا نتناقل النظرات في ما بيننا. اقتربنا منها وهدأناها وطلبنا منها ألا تتحدث إن كان الأمر يزعجها. فرفضت وبدأت بالحديث، وكأنه حمل أثقل كاهلها. كانت خلود فتاة يتيمة الأب، ولكننا جميعاً لم نكن نعلم بذلك، فصدمنا جميعاً

وقالت خلود: كان يوم ذكرى مولدي وقد أتممت 14 عاماً. أقام لي أبي حفلة للمناسبة. كنت مدللة كثيراً لديه. بعد الإحتفال بساعات قليلة أصبح الفرح الجميل مأساة عزاء وحزن. لن أنسى تلك الحفلة ما حييت. أصوات ضحكات أمي ليلاً، فجأة تحولت صباح اليوم التالي لصراخ  رهيب وهي تنادي والدي لينهض لعمله. كان قد فات الأوان وغادرت روحه منزلنا.

لم أستطع تقبّل الأمر، أصابتني حالة انهيار شديد. كيف بهذه السرعة فقدت جزءاً من روحي. أصاب المنزل الخراب بعد رحيل والدي. هو من كان يدبر كل شيء. وكان لنا كل شيء، كان الأب والأخ والصديق. كيف بهذه السرعة كأنه لم يكن، انطفأ كشمعة.

كان أخي الأكبر يجيد معاملتنا، ويعمل بكل جد ليلبي حاجاتناز لكن دور الأب يختلف. وبعد وفاة أبي، لم تعد أمي تهتم بنا كما يجب. كأنها تدمرت من الداخل، وعائلتنا لم تعد كما كانت …

وبعد رواية خلود لقصتها فهمنا أن والدتها لم تكن أهلاً للمسؤولية من بعد وفاة والدها،  ولم تتطلع جيداً لأمور أولادها. مما جعل خلود تصل لهذه الحالة من اللامبالاة والقيام بكل ما تريد من دون خوف أو حساب عواقب.

وزاد الطين بلة اندلاع الحرب والخروج والتشرد والنزوح ومن ثم اللجوء إلى تركيا. حينها تعاطفنا مع خلود وبدأنا نساعدها بعد معرفتنا بقصتها. كانت خلود ذات قلب طيب جداً وذكية. لكن وفاة والدها زعزت شخصيتها. وتبع ذلك إهمال والدتها لها. وعدم تصرفها معها بمراعاة لحالتها.

وقتها كنت أتابع علم النفس وكنت من المطلعين عليه بكثرة. وكان يظهر ذلك  بعض الشئ في تعاملي مع صديقاتي إذ يقلن لي بأن لدي طريقة جيدة في الكلام والمساعدة. ولذلك تم اختياري مع إحدى صديقاتي من قبل الإدارة وزميلاتي لمساعدة الطالبات وسماعهن وحل المشاكل التي نستطيع حلها. وما لا نقدر عليه نتركه للإدارة.

وأوكلت لي مهمة مساعدة خلود بإشراف المرشدة النفسية، وهي الوحيدة التي كانت مشكلتها الأكثر تعقيداً. حاولت مساعدة خلود كثيراً. في تلك الفترة على الرغم من قباحة المواقف التي كانت تضعنا بها. وتم استدعاء والدة خلود مراراً إلى المدرسة،  لكن كل ذلك لم يجدِ نفعاً. ولكننا لم نتركها وتابعناها بشدة، ولكنها لم تتوقف عن إثارة المشاكل أبداً. بل كانت كل يوم في إزدياد وبطرق مختلفة!

وأصبحت الفتيات لا يتقبلنها أبداً، ويردن فصلها. قامت الطالبات بتقديم طلب للإدارة التي رفضت ذلك، خوفاً على خلود من القيام بمشاكل أخرى.  ولكن وبعد فترة أتت خلود وهي تقول بأنها ستنتقل مع عائلتها للعيش في مدينة إسطنبول مع أخيها الأكبر، حيث كان يسكن مع زوجته.

بدا وكأن المدرسة ستقيم حفلاً لذهابها، لما كانت تسببه من مشاكل. ولكنني رغم ذلك، لم أترك خلود وبقيت أتابعها وأنصحها حتى آخر يوم؟  وكانت تطلب أن تتحدث معي عن بعض قصصها وأقوم بسماعها رغم علمي بأن بعضها وربما أغلبها كان كذباً.

وعلى الرغم من أن كل شئ كان هباءً منثوراً معها، كنت أحزن كثيراً عليها بسبب نبذها من الطالبات، فهو موقف مزعج لأي فتاة في عمرها. وبعد ذهابها لم تعد تتواصل معنا كثيراً. وانقطعت أخبارها. وبعد فترة من ذهابها علمت بأنه تم عقد قرانها وستتزوج عما قريب، وتركت الدراسة.

كانت فتاة بقلب طيب جداً وطفولي، لكنها ذهبت ضحية الإهمال الأسري 5 سنوات من عمر هذه الثورة كانت كفيلة بسرد روايات كثيرة وهموم أكبر.

ورد غدي (18 عاماً) من ريف حماه الغربي لاجئة في مدينة هاتاي التركية حيث تتابع دراستها لتصبح معالجة فيزيائية.