لوحة عائلية ناقصة: فرح دون فرح

هنادي زحلوط

لم تختر فرح اللون الأسود لملابسها عبثاً. وقفت أمام باب فرع المخابرات حيث اقتادت إحدى الدوريات أخاها لاحتجازه هناك. كان أصدقاؤه قد أخبروها أنه قاوم الإعتقال ولم يستسلم إلا والدماء تسيل من رأسه ويديه. نظرت إلى العناصر في غرفة الاستعلامات أمام الفرع متحدية وقالت لهم: “لقد لبست السواد وجئتكم، أعطوني جثة أخي لأدفنه، أريده الآن بين يديّ، وإذا كان حياً دعوني أراه.”

وعائلة فرح هي واحدة من عشرات، إن لم نقل مئات آلاف الأسر السورية اليوم، التي اعتقل أحد أفرادها، وتتلقى يومياً أخباراً سيئة حول صحته، وأحياناً، حول وفاته تحت التعذيب.

وهذه الأسر لا تستغرب مطلقاً الشائعات التي تروّج عن أبنائها. ففي أماكن الاحتجاز تتنوع ألوان التعذيب، مما يجعل الوفاة تحت التعذيب أمراً ممكنًا، للأسف.

وبين الضرب على الوجه، والضرب بالعصي الخشبية على القدمين واليدين، والصعق بالعصي الكهربائية، والأسلاك الكهربائية، وصولاً إلى الحرق، يتدرج المعتقل في السجون السورية، حتى الإعتراف، وكثيراً ما يترك ذلك الكثير من الأمراض والإصابات إلى فترة ما بعد الاعتقال.

غير أن هنالك أُسَراً ما تزال تفقد أبناءها دون أن تمتلك الجرأة للبحث عنهم. يقول أحد آباء المعتقلين، ويعمل قاضياً: “لا أستطيع الإعلان عن اعتقال إبني أو السؤال عنه، وإن من بعيد، فذلك يضر بسمعتي كقاض.”

غير أن الأفرع الأمنية تتفاوت في درجة تقبلها للسؤال عن معتقل لديها. ففي فرع أمن الدولة بمنطقة الخطيب بدمشق، كثيراً ما يتم اعتقال ذوي المعتقل في حال قدومهم إلى الفرع للسؤال عن إبنهم، والإطمئنان إلى صحته، وهو ما يشكل هاجس خوف إضافي لدى ذويه، كما أن ذوي المعتقلين يخشون كثيراً من إثارة ضجة إعلامية حول اعتقال ولدهم، خوفاً من تعرضه للمزيد من التعذيب انتقاماً.

وغالباً ما تلجأ أسر المعتقلين إلى أصحاب النفوذ الذين تربطهم بهم صلات قربى أو جوار من أجل الإستعلام عن مكان الإعتقال، وفي أحسن الأحوال لمعرفة الوضع الصحي للمعتقل، وكثيراً ما تقدم رشاوى عديدة من أجل ذلك.

فالشبيحة ذاتهم الذين يقومون بدور في الإعتقال، يدفع لهم أهل المعتقل المال من أجل معرفة أي خبر عنه، بسبب صلاتهم القوية بذوي النفوذ.

وبالطبع فإن اعتقال المرأة يفوق في جسامته اعتقال الرجل في سورية، حيث يخشى المجتمع التقليدي المحافظ من تعرضها للمضايقات بسبب كونها أنثى، واستغلال ضعفها الجسدي أو النفسي للضغط عليها.

تقول دنيا (إسم مستعار)، وهي إحدى المعتقلات اللواتي خرجن من الإعتقال مؤخراً: “لم أتعرض للتعذيب الجسدي. كان التعذيب نفسياً فقط بالتهديد بالضرب، والشتائم، لكنني فكرت كثيراً بالمخاوف التي تدور ببال أهلي. أزعجني أنهم قد يفكرون باحتمال تعرضي للاغتصاب، ولن يستطيع أحد طمأنتهم قبل خروجي سالمة.”

تتنوع شرائح المعتقلين السوريين عمرياً بين الطفولة والشباب والشيخوخة، ومن جميع المنابت الطبقية والثقافية، وجميعهم يتعرضون لصنوف مختلفة من التعذيب أياً كان موقعهم، ومنهم الفنانة مي سكاف التي اعتقلت في مظاهرة للمثقفين السوريين في حي الميدان بدمشق العام الفائت؛ والطبيب جلال نوفل الذي اعتقل مؤخراً أثناء تواجده في مشفى الهلال الأحمر؛ والمفكر والكاتب سلامة كيلة الذي اعتقل وتعرض للتعذيب قبل أن تقوم السلطات السورية بترحيله إلى الأردن؛ والناشط الصحفي مازن درويش الذي مضى على اعتقاله وكادر المركز السوري للإعلام وحرية التعبير الذي يديره، حتى الآن، أكثر من أربعة أشهر في زنزانة انفرادية بسجن المزة العسكري؛ والناشط في تنسيقية داريا يحيى الشربجي الذي أمضى ما يزيد عن عشرة أشهر رهن الإعتقال من دون ورود أي معلومات عنه.

كل هذا يجعل من خبر تحويل المعتقل إلى القضاء حدثاً سعيداً بامتياز، حيث تتوفر إمكانية رؤيته والاطمئنان على صحته، والفرح بوجوده على قيد الحياة!

وهذا هو الأمل الذي تنتظره فرح، ويجعلها تبقى ثابتة أمام باب الفرع مصممة على رؤيته ومعرفة وضعه، حالمة بيوم عودته وماذا ستعد له من طعام، لترمي ثيابه المشققة عنه إلى الأبد!