لن أرحل من سوريا ثانيةً…
من حي بستان القصر في حلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
"لم أُفكّر في يوم الابتعاد عن وطني ومنزلي، لكنَّ تلك الحرب اللعينة، أجبرتني."
بتاريخ لم يكد يمر العام على تهجيرنا من قريتنا حتى جاءت المحطة الثانية من النزوح، إلى الحدود السورية التركية، كان ذلك في العاشر من حزيران/يونيو 2014…
قررتُ الرحيل عن وطني كي أحاول الحفاظ على حياة ولدي، وذلك بعدما سمحَ لي زوجي بذلك لأنهُ كان يعارض الفكرة في البداية… قررت عبور الحدود عن طريق التهريب. وبعد جهدٍ كبير وعناء المسافات الطويلة سيراً على الأقدام، وصلنا أخيراً إلى بلدة تُدعى الريحانية وجلسنا تحت ظل إحدى الأشجار.
جاء رجل من الشرطة التركية، وتحّدث معنا بلغته… لم نفهم أي كلمة من حديثه، كما لم يفهم علينا أي شيء، اصطحبنا إلى فرع الشرطة وهناك أرسلوا بنا إلى مخيم في غازي عنتاب.
دخلنا المخيم ونحن لا نملك أي شيء، سوى أجسادنا المرهقة من شدّة الجوع والتعب والعطش… استقبلونا هناك في كرفانة كبيرة تُدعى صالة الاستقبال، وأحضروا لنا بعض الطعام والشراب. أكلنا وشربنا، وبدأنا نسأل العوائل السورية عن الوضع في المخيم.
الكادر الموجود حضَّرَ لنا خيمة فيها جميع ما يلزمنا من أثاث بسيط وأدوات طبخٍ وتنظيف… كما أعطوني بطاقة لشراء الأغراض من المتجر. كنت أشتري كل ما يلزمنا أنا وأبنائي… عشنا في راحةِ بال في تركيا، لكنَّ الحنين كانَ يشدُّنا إلى بلادنا رغم المسافات الطويلة…
كنت كلَّ ليلة قبل أن أنام، أتذكَّر زوجي وبيتي وأهلي… زوجي لم يستطع القدوم معنا إلى تركيا، لأنه كان متزوِّج من غيري ولديه أبناء رفضوا الرحيل إلى خارج سوريا، بل انضمّوا إلى صفوف المحاربين ضد النظام الظالم. استأجروا منزلاً في ريف إدلب الذي تسيطر عليه المعارضة، ولم يغادروا سوريا.
كان عمر ابني 14 عاماً، ولم يكن بمقدوره حمل السلاح، كما فعلَ إخوته، فرحلنا. وفي تركيا أيضاً، لم يستطع العمل، لأنَّ العمل هناك متعب والدوام ساعاته طويلة… فقررتُ المكوث مع ولديّ في الخيمة، واعتمدنا على المعونات الغذائية التي كانت تأتينا.
بقيتُ على هذا الحال عامين، وكان زوجي يتصل بنا بين الفترة والأُخرى ليطمئن علي وعلى ولديّ. وكان جوابي لهُ دوماً، أننا “بخير ولا ينقصنا سوى رؤيتك”.
في يوم، طلبَ زوجي أن أعود إلى سوريا مع الأولاد، فعُدنا في 15 حزيران/يونيو 2016، حيثُ كان حنيني إلى وطني وزوجي كبيراً. فأنا في الأساس، لم أُفكّر في يوم الابتعاد عن وطني ومنزلي، لكنَّ تلك الحرب اللعينة، أجبرتني.
خلال عودتنا، دخلنا الأراضي السورية عبر الحدود بشكلٍ نظامي، إلى مناطق المعارضة في سوريا… فقد كنا قد حصلنا على بطاقات شخصية تركية.
انتظرني زوجي وأولاده في كفرنبل مقابل مشفى أحمد الأقرع، ومن هناك بدأت الفرحة تعمُّ قلبي…
عدتُ إلى زوجي ووطني… اتجهنا إلى بلدة معرّة حرمة، وهناك أحسستُ أنَّ كلَّ شيء غريب عني وعن قريتي القديمة، لكني على الأقل في سوريا.
مكثتُ في البلدة مع أبناء زوجي، فقد اتفقنا أنهُ في ظل ظروف الحرب أن نسكن معاً، لأنَّ زوجي لا يستطيع استئجار منزل خاص بي. في منزلٍ واحد مع أبناء زوجي صرتُ أعيش، وقد أوصاني زوجي ألا أعود إلى تركيا مجدداً…
كانت ابنتي تبلغُ من العمر 17 عاماً، وقد عادت إلى سوريا على أمل أن يتقدَّم أحد من أقاربنا لخطبتها… لكن للأسف، لم يتقدّم أحد لخطبتها! وذاتَ مساء، ذهبَ زوجي إلى خان شيخون، من أجل حضور حفل خطوبة ابن عمه. صرنا نمازحه ونقول له: “أحضرْ لنا بعضاً من الحلوى من حفل الخطوبة” فقد كنا نشتهي أكل الحلوى في ظل الفقر الكبير! ذهبَ وهو يضحك…
حلَّ المساء وكنا قد تناولنا وجبة العشاء وسهرنا، ولكنَّ زوجي لم يعد بعد! لقد تأخَّرَ كثيراً، ما الخطب؟! اتصلنا به مراراً، لكنَّ هاتفه كان خارج التغطية! وبعد حين جاء أخوه أبو فواز وهو يبكي ويقول لنا: “أبو ابراهيم توفي بحادثِ سير، وبعد قليل ستُحضرهُ سيارة المستشفى إلى هنا!”
أصابتنا حالة صدمة، وبدأنا نبكي… جميعاً… صُعِقتُ لهول المصيبهة، ماذا حلَّ بنا؟! كُتِبَ عليَّ أنّي كلّما فرحت، أن أحزنَ حزناً أكبر من فرحي! كنتُ فرحة بعودتي إلى سوريا، وها أنا مفجوعة بموت زوجي!
أدخلوه إلى المنزل وقاموا بتغسيله، تحضيراً لدفنه عند ساعات الصباح الأولى… صارَ أمراً واقعاً أنهُ لم يعد لي أحد في هذه البلاد، لكنَّ وصية زوجي بأن أبقى في سوريا سأُحافظ عليها! سأبقى هنا من أجل ابني وابنتي وتنفيذاً لوصية زوجي… سأعيشُ في سوريا رغم كل الظروف القاسية التي تُعانيها.
ميساء الشامي (45 عاماً)، نازحة في معرّة حرمة في ريف إدلب الجنوبي. أرملة وأم لولدين، ربة منزل.