لم تكن يوماً إلّا قصة نجاح وتحدّي

حياتنا عبارة عن قصة قصيرة لها بداية ونهاية. بين البداية والنهاية نحن من نكتب المحتوى الأساسي والسيناريو الذي نريده و نختاره، فإما الإحباط والاكتئاب والاستسلام للأقدار التي تصادفنا، و إما الاستمرار والنجاح .

اسمي حسناء، من الغوطة الشرقية، دخلت العقد الثالث من العمر. مهجرة من وطني إلى داخل وطني. تقول أمي أنني مختلفة عن إخوتي في كل شيء. وأظنها تقصد بذلك  تحمّلي لأي صعاب أواجهها وعدم اهتمامي للمجتمع المحيط، و كثرة أسئلتي منذ صغري عن كل شيء. وعدم تقبّلي لأي فكرة لا أؤمن بها.

لم تكن حياتي سهلة أبداً، لطالما واجهت الصعاب والتحديات والظروف القاسية، ولكن لم تثن عزيمتي كل تلك الظروف، بل كانت دائما سبباً لتسطير نجاح آخر.

عصفت بي الحياة بمتقلباتها وتبدل أحوالها. أذهلتني بمفاجآتها ما بين حزن وفرح… ألم وأمل… حياة وموت… لقاء ورحيل…

ولكن دائماً كان هناك طائر نورس في حياتي. يلوح من بعيد ويقول لي آنني أكاد أبلغ الشاطئ فلا داعي لليأس. وكأن الله يرسل لي دائما تلك اليد الخفية لتساعدني فانهض من جديد . 

مسيرة حياتي طويلة جداً سأذكر منها القليل فقط، لأعرج في النهاية إلى المحطة الأخيرة التي أعيشها الآن، الماضي دروس والمستقبل غيب والحاضر أساس الحياة والعمل. أنا امرأة متمردة على كل جهل وأبحث عن الأفضل دائما لبناء جسور ثابتة في حياتي .

ظلمني مجتمعي وأصبت بصدمة قوية، فتمردت عليه لأثبت للعالم أجمع أن المرأة مختلفة تماماً عن كل ما يصفونها به، كرمها الله وأعزها بدينها ثم جاؤوا ليغلقوا عليها الأبواب والنوافذ بالعادات والتقاليد.

بدأت قصتي مع المجتمع منذ بلغت العشرين من العمر. عندما أصبحت مطلقة دون أن أعرف أسباب طلاقي. أو حتى أن أعرف أي حقّ من حقوقي  كامرأة مطلقة أو متزوجة. كنت لا زلت طفلة آنذاك. ومع كل ذلك الظلم يأتي المجتمع ليطلق على المرأة لقب المطلقة، وكأنها موصومة بالعار. ويضع لها القيود والقوانين اللاإنسانية ويجبرها على التقيد بأغلال العادات الواهية.

أنعم الله علي بوالدين بسيطين جداً ومتفهمين ومتحررين من كل تلك القيود ولا يستمعان إلى المجتمع البائس. أمسك أبي بيدي وقال لي: لا تصغي لأحد ولا تعطي أذنك لأي كلمة. عودي إلى دراستك و شقّي طريقاً آخر. وبالفعل هذا ما حصل . 

مرت الأيام وجاء ربيع تفوح منه رائحة الحرية. وبدأت أزهار ذلك الربيع تتفتح ويفوح منها عبق الأفكار التي لطالما عانقت عقلي وروحي. نعم شيء ما بدأ يتحرك داخلي، ويحدثني بأنه آن الأوان لكي تزهر العدالة الاجتماعية ويصبح صوت المرأة ثورة. بدأت الثورة و بدأت الأحلام تكبر.

كنت قد تزوجت مرة أخرى ورزقت بطفلتين، لأجد نفسي فجأة امرأة في بيت أبيها لديها طفلتين توأم لم يتجوز عمرهما بضعة أشهر. أخ شهيد وآخر مبتور القدمين، وأب كبير السن الحزن على ولديه قسم ظهره، وأم مصدومة من هول المصيبة…

وتحول الربيع إلى جحيم. أسلحة ونيران، خوف قاتل، دماء تنزف، قلوب تحترق، أصوات مخيفة. لم يبق سوى بقايا وطن وفتات أحلام.

ماذا أفعل؟ هل استسلم؟ هل أخاف؟ هل أقف مكتوفة الأيدي؟ لا وألف لا… آن الأوان لأكون سنداً لأهل ٍ فقدوا كل شيء.  وربما هذه هي اللحظات التي سترشدني إلى طريق آخر ابحث عنه .تركت طفلتين رضيعتين وبدأت العمل لأرد جميلاً صغيراً لأهلي وأعيل طفلتيّ.

أصبحت المرأة هي المعيلة للعائلة. أصبحت في كل يوم تسطر نجاحاً جديداً ليلمع اسمها عالياً، أجل هذا هو عصر النهضة للمرأة من جديد. مرت بضع سنوات على حالي هذه. من عمل لعمل آخر وتجارب جديدة إلى أن جاء ذلك اليوم الأسود الذي اعتقلني فيه النظام الحاكم في دمشق.

وكانت تلك إحدى أهم محطات حياتي التي تركت في أعماقي الكثير من الآثار.عندما خرجت من المعتقل ازداد إيماني بأن الثورة هي شاطئ الأمان لنا. وازداد حقدي على النظام  بعد كل ما رأيته وسمعته داخل المعتقلات من قصص ومشاهد لا تغادر مخيلتي إلى الآن .

نعم لا بد من الاستمرار في الثورة، ولا بد من تغيير العادات والتقاليد ليصبح المجتمع أهلاً للثورة. لا زال مجتمعي يحمل هذا التفكير البائس والنظرة السطحية. وعاد ليطلق علي هذه المرة لقب المعتقلة. وكأنني انسانة مختلفة عن غيري.

الاعتقال كان درساً كبيراً بالنسبة لي. ها أنا ذا اليوم في الشمال السوري المحرر، أتابع مسيرتي بتجارب جديدة كل يوم… إنه طائر النورس من جديد واليد الخفية التي يرسلها الله لي دائماً . 

اتصلت إحدى صديقاتي بي لتقدم لي عرضاً تطوعياً للعمل بشيء تراه هي يشبهني. هذه الصديقة كانت طائر النورس هذه المرة، تعرفت عليها صدفة، ولطالما كانت ملهمتي و ملهمة للكثيرات. 

صديقتي هذه مختلفة في كل شيء عن غيرها من النساء. تنظر إلى النساء بعين العظمة، وتجد في كل أنثى بصيصاً من النجاح. فتحاول ايقاظه بكلمات طيبة لتشعل نوراً داخلها يحثها على العمل وإيجاد نفسها. وتشجعها على الخوض في تجارب جديدة .

دعتني هذه الصديقة للعمل في لجنة نسائية تقدم يد العون للنساء تطوعاً لتساعدهن على التدريب والتمكين ومعرفة حقوقهن والمطالبة بها. مكان يسمع فيه صوت المرأة يحفزها يشجعها، ويسعى لوضعها في الأماكن التي ترغب بها. أماكن صنع قرار وحوارات ونقاشات وتصويت وانتخاب وتدريب وتمكين وتطوير وعمل.

هذا العمل فتح أمامي مجالاً آخر، يشبه العافية بعد المرض والحياة بعد الموت والنطق بعد الصمت الطويل. إنها نشرة إخبارية شهرية تعنى بالنساء فقط. هدفها تسليط الضوء على النساء ونشر أخبارهن وأعمالهن وانجازاتهن ومقالاتهن وابداعاتهن وقضاياهن…”أخبارنا” عمل جديد في ملف حياتي أضاف لي تجربة جميلة وأضاء داخلي نوراً بعيد المدى. وكأنه يريد أن يرشدني إلى الطريق الذي لطالما بحثت عنه. أجل إنها المرأة العظيمة التي لا بد لها أن تكسر جميع الحواجز لتتحدث عن نفسها بنفسها. ويصبح صوتها ثورة في وجه كل حاجز أمامها. وتجعل من أعمالها سبيلاً نحو حريتها وكرامتها. ونوراً يسطع على الأجيال ويرفرف في سماء العالم أجمع.