في جامعة إدلب الحرة طمعاً بمستقبل غير واضح
". وبعد جدال طويل قررت التسجيل في الجامعة والخوف يملأ قلبي. فهي جامعة غير معترف بها. "
دخلت كلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة إدلب عام 2010. وبعد عام توالت الأحداث التي لم تهدأ ليلاً نهاراً. ففي كل يوم حدث جديد. إنها الحرب، القصف والغارات وانتشار الحواجز وحملات الاعتقال.
هذا الواقع منعني من مواصلة الدراسة في بداية عام 2014، بعد أن ترفعت للسنة الرابعة. ومنذ أن توقفت وأنا أحلم بالتخرج يوماً ما من كليتي. لكن الظروف كانت أقوى منّي ومع خريف العام الماضي ألحّ أبي عليّ لمتابعة الدراسة في جامعة إدلب الحرة. علّني بعد التخرّج أجد وظيفة بشهادتي أكسب بها لقمة العيش. وبعد جدال طويل قررت التسجيل في الجامعة والخوف يملأ قلبي. فهي جامعة غير معترف بها.
اتصلت بإحدى صديقاتي التي تدرس في جامعة إدلب، وسألتها عن الأوراق المطلوبة.
قالت وهي تضحك: لا شيء. صورة عن الهوية وصورة عن شهادة البكالوريا وصورة عن إيصال السنة الرابعة. وتابعت ضاحكة 150$ رسوم تسجيل.
قلت لها: لا شك انك تمزحين، فالمعتاد أن ندفع رسوما بسيطة لا تقدر ب 2000 ليرة سورية. قالت: لا، انا جادة.
صمتت للحظات وتساءلت في نفسي، كيف يمكن للناس المعدومي الحال التسجيل في هذه الجامعة؟ كأنها جامعة خاصة. وتابعت شاكرة إياها وقلت في نفسي سنة بسيطة سأتحمل.
قررت أمي اصطحابي في يوم التسجيل، أو ربما أنا من طلب منها الذهاب معي، فهي المرة الأولى التي سأذهب بها إلى مدينة ادلب بعد تحريرها. كنت خائفة لا أعرف لماذا.
في الصباح الباكر يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، كانت حبات المطر تتساقط بهدوء رائع، والنعاس مازال يعلو أجفاننا، انطلقنا بإحدى السيارات من بلدتنا في ريف إدلب الجنوبي قاصدين محافظة إدلب.
جميع الركاب كانوا صامتين، ولا أحد يعرف ما الذي يدور في ذهن الآخر. سلكنا الطريق المعتاد، ساعة كاملة تفصلنا عن المدينة. البلدات التي مررنا بها أذكرها جيداً، ولكن لعنة الحرب قد حلت عليها، والقصف والغارات أخذت نصيبها منها.
لاحت لنا أشجار السور في محافظة إدلب، انتفض قلبي فرحاً. ونزلت دموع الاشتياق للمدينة التي قضيت فيها ثلاث سنوات. تنفست هواءها ومشيت في شوارعها. ما إن وصلنا الدوار القريب حتى أوقفنا أحد الحواجز التابعة للفصائل الثورية. عادت بي السنوات إلى الوراء. إلى حواجز النظام. تذكرت ما كانوا يفعلون بنا. كنا نقف الساعات الطوال في الحر وفي البرد أيضا/ ننتظر العبور إلى الدولة الأخرى.
نظر إلينا أحد العناصر ويداه ترتجفان برداً، وقال: من أين تأتون؟ رد سائق السيارة: من الريف الجنوبي. قال العنصر: على البنات الالتزام باللباس الشرعي وإلّا… وأشار بسبابته. لم أعرف ماذا يقصد، لكنني عرفت أنني المقصودة من كلامه. وهمست في أذن امي: المكتوب يقرأ من عنوانه.
سمح لنا بالعبور إلى المدينة. فرح أم حزن أم خوف، لا أدري ما الشعور الذي اعتراني. تساءلت في نفسي، هل سأرى الأماكن التي اعرفها كما هي، كما أشجار السرو شامخة مكانها. ولكن ما رأيته أنها هي الأخرى قد حلت عليها لعنة الحرب.
تابعنا المسير إلى كلية الآداب. هي كليتي نفسها. الابتسامة ملأت وجهي هرولت مسرعة ولم ألق بالاً لأمي التي لا تستطيع أن تمشي بسرعتي. وهناك أمام باب الكلية جلت بناظري في كل زاوية وكل حجر. هي الأخرى لم تسلم.
ها هي الجدران شاهدة على ذلك. طلقات الرصاص قد مزقت الجدار كفريسة فتك بها وحش ضار. متر واحد فصلني عن باب الكلية. منعني من الدخول صوت ذلك الشاب الذي ركض باتجاهي وهو يصرخ: توقفي لا يمكنك الدخول.
لم أستطع تمالك نفسي صرخت بصوت أعلى من صوته: لماذا؟
أجاب وهو مطرق الراس: اليوم دوام الشباب عليكِ العودة في أيام دوام البنات. خفض صوته وتابع: أختاه الاختلاط ممنوع.
لم أتفوه بأي كلمة. أجابت أمي عنّي. وعند جدران جامعتي انتظرنا الساعات الطوال، بانتظار السيارة التي ستنقلنا إلى البلدة. دون أن نستطيع أن نخطو خطوة واحدة داخل الكلية.
مئات الأسئلة كانت عالقة في ذهني تبحث عن إجابة للذي حدث. والسؤال الذي ألحّ على الإجابة أكثر من غيره، أتابع التسجيل أم اتوقف وأبقى في انتظار معجزة سماوية لأتخرج.
بقيت حائرة حتى عدنا إلى البيت. رويت لأبي ما حدث. لكن أبي شجعني على المتابعة. وأن علي التحمل والصبر، لأننا في زمن الحرب. وعدت في يوم آخر وتابعت التسجيل. وأصبحت طالبة في جامعة إدلب الحرة. التي لا أعرف مستقبلها ولا أعرف الفائدة التي سأجنيها من هذه الشهادة ومن هذا التخرج …
تقى الجمال (26 عاماً) كانت تعمل مديرة لمركز دعم نفسي للأطفال وتقيم حاليا في بلدة معرة حرمة في ريف ادلب الجنوبي.